محبَّتنا واتِّباعنا لِنبيِّنا صلى الله عليه وسلم هُما سبب ترْكِنا وتحذِيرنا مِن الاحتفال بمولِده
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي أكملَ لَنَا دِينَهُ الإسلام، ونَصَبَ الأدلةَ على صِحَّتِهِ وأحكامِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، جاءَ بشريعةٍ واضحةٍ لا يَزِيغُ عنها إلا هالِكٌ، اللهمَّ فصَلِّ وسَلِمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِ بيتِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ القائِمينَ بسُنَّتِه علمًا وعملًا ودعوة.
أمَّا بعدُ، يَا أُمَّةَ النَّبيِّ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم:
فإنَّه لو اختلفَ اثنانِ مِنكُم، فقالَ أحدُهُما: «إنَّ الاحتفالَ بيومِ ولادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مباحٌ، أو أمرٌ طيِّبٌ حسَنٌ»، وقالَ الآخَرُ: «بلِ الاحتفالُ غيرُ مشروعً بدعةٌ في الدِّينِ مُحرَّمةٌ»، فلا رَيبَ أنَّ المُصِيبَ المَنصورَ بأدلَّةِ القرآنِ والسُّنةِ الثابتةِ، وأقوالِ وأفعالِ الصحابةِ، هوَ: الذي لم يَحتفلْ وحرَّمَ الاحتفالَ وحكَمَ بأنَّهُ بدعةٌ في الدِّين وحذَّرَ إخوانَهُ المسلمينَ مِنهُ، ولم يُعِنْ عليهِ أحدًا.
وكيفَ لا يكونُ تارِكُ الاحتفالِ بالمولدِ مُصيبًا: واللهُ ــ جلَّ وعلا ــ قد قالَ آمِرًا لهُ ولِجميعِ العِبادِ: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ }، واللهُ سبحانَهُ قد أنْزَلَ علينا وإلينا القرآنَ والسُّنةَ النَّبويةَ، ولم نجِدْ فيهما ذِكرًا للاحتفالِ بالمولدِ، لا أمْرًا ولا ترغيبًا، وقد قالَ الفقيهُ الفاكِهانيُّ المالكيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ في رسالتِه “المَورِدِ”: «لا أعلمُ لِهذا المَولِدِ أصلًا في كتابٍ ولا سُّنةٍ ولا يُنقلُ عملُهُ عن أحدٍ مِن علماءِ الأمَّةِ».اهـ
كيفَ لا يكونُ مُصيبًا: وهذا الاحتفالُ بالمولدِ لم يَفعلْهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُهُ ولا مَن بعدَهُم مِن السَّلفِ الصَّالحِ، وهُم خيرُ الناسِ عندَ اللهِ، وقد قالَ قاضِي اليمنِ الشوكانيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ عنِ المولِدِ في “فتاويهِ”: «أجمعَ المسلمونَ أنَّهُ لم يُوجدِ في عصْرِ خيرِ القُرونِ ولا الذينَ يَلونَهُم ولا الذينَ يَلونَهُم»، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ))، فهَنِيئًا لِمَن تَبِعَ أهلَ هذهِ القُرونِ فترَكَ الاحتفالَ كما ترَكُوه.
كيفَ لا يكونُ تارِكُ الاحتفالِ مُصيبًا: وهوَ مُتشبِّهٌ في تَرْكِهِ للاحتفالِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ وجميعِ أهلِ القرونِ الثلاثةِ الأُولى وأئمَّةِ المذاهبِ الأربعةِ، ومُخَالِفُهُ الذي يَحتفلُ بالمولدِ مُتَشبِّهٌ بالشِّيعةِ الرَّافضةِ العُبيديَّةِ الباطنيةِ الخوارجِ، حيثُ نَصَّ كثيرٌ مِن العلماءِ والمُؤرِّخينَ مِن مُختلِفِ العُصورِ والبلدانِ والمذاهبِ الفقهيةِ على: «أنَّ أوَّلَ مَن أحدَثَ الاحتفالَ بالمولدِ النَّبويِّ هُم مُلوكُ الدولةِ العُبيديةِ الشِّيعِيةِ الرَّافضيةِ الباطنيةِ الخارجيَّة»، ومِمَّن ذَكرَ ذلك: مُؤرِّخُ مَصرَ المَقْرِيزيُّ الشافعيُّ في كتابِهِ “الخِطَطِ”، وأديبُ عصرِ المَماليكِ الْقَلْقَشَنْدِيُّ في كتابِه “صُبحِ الأعشَى”، وعلي محفوظ الأزَهرِيُّ في كتابِهِ “الإبداعُ في مَضَارِّ الابتداعِ”، وعلي فِكرِي في كتابِهِ “المُحاضراتِ الفِكرِيَّةِ”، بلْ قالَ مُفتِي مِصرَ المُطِيعِىُّ الحنَفِيُّ ــ رحمه الله ــ في كتابهِ “أحسنِ الكلامِ”: «مِمَّا أُحْدِثَ وكثًرَ السؤالُ عنهُ المولد، فنقولُ: إنَّ أوَّلَ مَن أحدَثَها بالقاهرةَ الخلفاءُ الفاطِميونَ، وأوَّلُهُم المُعِزُّ، فابتَدعُوا: سِتَّةَ موالدَ، المولِدَ النِّبويَّ، ومولِدَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ومولِدَ فاطمةَ الزَّهراءِ، ومولِدَ الحَسنِ، ومولِدَ الحُسينِ، ومولِدَ الخليفةِ الحاضِرِ، وبَقِيَتْ هذهِ الموالِدُ على رُسُومِها إلى أنْ أبطلَها الأفضلُ ابنُ أميرِ الجيوش».
كيفَ لا يكونُ تارِكُ الاحتفالِ مُصيبًا: والاحتفالُ بالمولدِ أمْرٌ مُحدَثٌ في دِينِ اللهِ، أحدَثَهٌ العُبيديونَ الرَّافِضَةَ الشِّيعةَ في القرْنِ الرابعِ الهِجريِّ، وقد صحَّتْ هذهِ الأُمورُ في شأنِ الأقوالِ والأفعالِ المُحْدَثَةِ في الدِّين بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
الأوَّل: أنَّ الأمورَ المُحْدَثَةَ في الدِّينِ بدعةٌ وضلالةٌ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).
الثاني: أنَّ الأمورَ المُحْدَثَةَ في الدِّينِ مَردُودةٌ على مُحدِثِها وفاعِلِها لا يَقبلُها اللهُ مِنهُ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ))، (( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )).
الثالث: أنَّ الأمورَ المُحْدَثَةَ في الدِّينِ شَرٌّ وبدعةٌ وضلالةُ ومُتَوَعَّدٌ عليها بالنَّارِ والعذابِ فيها، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ في خُطبِهِ: (( إِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، ولا رَيبَ: أنَّ ما وُصِفَ في الشرعِ بأنَّهُ شَرٌّ وبدعةٌ وضلالةُ، وحُكِمَ أنَّهُ لا يُقبَلُ ومَردودٌ على صاحِبِهِ، وتُوعِّدَ عليهِ بعذابِ النَّارِ، لا يكون إلا مِن شديدِ وكبيرِ المُحرَّماتِ وأخطَرِها.
ألَا وإنَّ مِن عَجيبِ أمْرِ بعضِ الناسِ وغرابتِهِ الشديدةِ، أنْ يقولوا عن الاحتفالِ بالمَولِد: «إنَّهُ بدعةٌ حسَنةٌ»، مع أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد خالَفَهُم وحَكَمَ بأنَّ جميعَ البدعِ ضلالاتٌ، والضَّلالاتُ لا حَسَنَ فيها أبَدًا، فصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ في خُطبِهِ: (( إِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، ولفظُ: (( كُلٍّ )) مِن صِيغِ العُمومِ عندَ أهلِ اللغةِ وغيرِهم، وتَعنِي: أنَّهُ لا تُوجدُ بدعةٌ في الدِّين إلا وهِيَ في شرعِ اللهِ ضلالةٌ، وقد صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُما ــ قال: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً )).
اللهمَّ: جنَّبْنا البدعَ في الدِّين، واكِفِنَا شَرَّ دُعاتِها ومجالسِها، إنَّكَ جوادٌ كريم.
الخطبة الثانية:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ, والصلاةُ على خاتَمِ النَّبِيينَ, وآلِهِ وصحابتِهِ أجمَعين.
أمَّا بعدُ، يَا أُمَّةَ النَّبيِّ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم:
فإنَّ بعضَ الناسِ يُغالِطُونَ أنفُسَهُم، ويَضُرُّونَ دِينَهُم وآخِرَتَهُم، فيقولونَ تخريجًا لأنفُسِهِم في الدُّنيا: «إنَّ معَنا على الاحتفالِ أكثرَ المسلمينَ اليوم»، فيُقالُ لِهولاءِ ــ سدَّدهُم اللهُ ــ: هذا التخريجُ لا يَنفعُ عندَ اللهِ يومَ الحِسابِ والجَزاءِ، لأنَّ الجميعَ يعلمُ أنَّ اللهَ ورسولَهُ صلى الله عليه وسلم لم يَجعلا الكثرةَ ميزانًا لِمعرفةِ الحقِ، ولا دليلًا لِصحِّةٍ قولٍ أو فعلٍ أو مذهبٍ، بل المِيزانُ هوَ: قالَ اللهُ تعالى وقالَ وفعلَ وترَكَ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، وقالَ الصحابةُ وفعَلوا وترَكوا، وقد كشَفَ اللهُ حقيقةَ الأكثريةِ، فقالَ سبحانَهُ: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ }، وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أمَّتَهُ سَتفترِقُ في الدِّين إلى فِرَقِ كثيرةٍ، وأنَّ جميعَها على ضلالٍ وانحرافٍ إلا فِرقةً واحدةً، حيثُ صحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ))، ويُقال لهُم أيضًا: إنَّ مع الذين لا يَحتفلونَ بالمولِدِ النَّبويِّ وغيرِهِ مِن الموالِد الرُّكنَ الأقوى، والجانِبَ الأعلى، والدليلَ الأكبر، فمعَهُمُ: اللهُ تعالى إذ لمْ يأمُرْ بالاحتفالِ بالمَولِدِ ولا رَغَّبَ فيهِ ولا دعا إليهِ، ومعَهُمُ: الرسولُ صلى الله عليه وسلم والصحابة وجميعُ أهلِ القُرونِ الثلاثةِ الأُولى وأئمةُ المذاهبِ الأربعةِ ومَن في أزمنَتِهِم مِن فُقهاءٍ ومُحدِّثينَ، حيثُ لم يَحتفلوا ولا دَعوا الناسَ للاحتفالِ، فهَنِيئًا لِمَن كانَ هؤلاءِ جميعًا في جانِبِهِ ومعَهُ فيما هوَ عليهِ وما فَعلَ وترَكَ وحذَّرَ.
وقد قالَ الفقيهُ التِّزْمَنْتيُّ الشافعيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ عن الاحتفالِ بالمولدِ كما في “السِّيرةِ الشامِيِة”: «هذا الفِعلُ لم يَقعْ في الصَّدرِ الأوَّلِ مِن السَّلفِ الصالحِ مع تعظيمِهِم وحُبِّهِم لهُ صلى الله عليه وسلم إعظامًا ومحبَّةً لا يَبلغُ جميعُنا الواحدَ مِنهُم»، وقالَ الفقيهُ الفاكِهانيُّ المالكيُّ ــ رحمهُ اللهٍ ــ في كتابِهِ “المَورِدِ”: «هذا المولدُ لا يُنقلُ عملُهُ عن أحدٍ مِن علماءِ الأمَّةِ الذين هُم القُدوَةُ في الدِّينِ المُتمسِّكونَ بآثارِ المُتقدِّمين».
ولئِنْ كانَ في نفوسِ المُحتفِلين بالمولِدِ: رغبةٌ ونشاطٌ وتَحمُّسُ لِفعلِ الطاعات، والاجتهادِ في العباداتِ، والإكثارِ مِنَ القُربَات، فلتَدَعْ عنها الاحتفالَ بيومِ المولِد لاسِيَّما بعدَ أنْ سَمِعتْ عنهُ ما ما تقدَّم، وعرَفَتْ بدايتَهُ ومَن أحدَثَهُ وحُكمَهُ، ولا تُخاطِر بأنفُسِها، ولتَقُلْ لَهَا: يا نفسُ كمْ مِن العباداتِ التي جاءتْ في القرآنِ وثبَتَتْ في السُّنةِ النَّبويةِ وأنتِ لا تفعلِينَها ولا تجتهدِينَ في تحصيلِها، يا نفسُ هَلُمِ إلى فِعلِها والإكثارِ مِنها، يا نفسُ إنَّ مِن العيبِ أنْ تُقصِّري أو تتساهَلِي أو تَضْعُفِي أو تتكاسَلِي في عباداتٍ كثيرةٍ جاءتْ في القرآنِ وصحَّتْ في السُّنةِ وجاءَ الوعيدُ على تركِها وعَظُمَ الأجْرُ في فِعلها وأنتِ لا تقومِينَ بِها ولا تتحمَّسِين لَهَا.
ألَا فاتقوا اللهَ أيُّها الناسُ، واعلَموا أنَّ مَن كانَ يُحِبُّ اللهَ فقد أرشدَهُ إلى طريقِ وشاهدِ محبَّتِهِ وامتحنَهُ بِهِ، فقالَ سبحانَهُ آمِرًا نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.
اللهمَّ: اجعلَنا مِمَّن تُحِبُّهُم ويُحِبونَكَ، وتَغفرْ لهُم ذُنوبَهُم باتِّباعِهِم لِرسولِك، اللهمَّ: وفِّقَنا لِمعرفةِ الحقِّ واتِّباعِهِ، ومعرفةِ الباطلِ واجتنابِهِ، اللهمَّ: تجاوَزْ عن تقصيرِنا وسَيِّئاتِنا، واغفرْ لَنا ولوالِدِينا وأهلِينا وجميعِ المؤمنينَ، اللهمَّ: بارِكْ لَنا في أعمارِنا وأعمالِنا وأقواتِنا وأوقاتِنا وأموالِنا، اللهمَّ: اكشِفْ عن المسلمينَ ما نَزلَ بِهِم مِن ضُرٍّ وبلاءٍ، ووسِّعْ علينا وعليهِم في الأمْنِ والرِّزقِ والعافيةِ، ووفِّقْ للخيرِ حُكَّامَ المسلمينَ، وارزُقْهُمُ البِطانةَ الصَّالِحةَ النَّاصِحةَ، إنَّكَ سميعٌ مُجيب، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.