تنبيه اللَّعَّان إلى عظم إثم لعنه لولده أو زوجه أو أخيه المؤمن
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــ
الحمد لله العالم بالبواطن والظواهر، المطلِّع على مكنون الصدور ومنطوق الألسن، القائل في تنزيله مٌهددًا: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي دَلَّ أمَّته على كل خير وفلاح، وزجَرهم عن المحرمات والقِباح، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الأقوال والفِعال المِلاح.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
إنَّ السلامة مِن غضب الله، وأليم عقابه، وشديد بأسه، وسُرعة انتقامه، لَها أثمان جميلة ترفع مِن قدْر العبد، وتُعليه بين الخلق، وتجعله في رُقيٍّ مستمر، ولها أسباب بيِّنة لا تخفى، ألا وإنَّ مِن أعظم أثمانها وأظهر أسبابها:
حفظَ اللسان عن صُنوف المحرَّمات القولية مِن الكذب، والنميمة، والغيبة، والسِّباب، والشَّتْم، واللَّعن، والقذْف، والبُهتان، وشهادة الزور، وعَيب الناس وهجوهم، وإلقاء النُّكَت المُضحكة حولهم .
وإنَّ اللسان إنْ لم يُحفظ ويُصان ويُضبط أكبَّ صاحبه على وجهه في نار جهنم، أَكبَّه في نارٍ تلظَّى، نارٍ شديدة الهَول، كثيرةِ النَّكال، بعيدةِ القَعْر، بشعَةِ المنظر، فقد ثبت عن معاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ))، وثبت عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( وَالله إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ فِي الرَّفَاهِيَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ فَتُرْدِيهِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ))، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لمن يُريد الجنة ويريد نعيمها والسؤدد فيها: (( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ ))، والذي بين اللَّحْيَين هو: اللسان، وما بين الرجلين هو: الفرْج.
وثبت عن سفيان بن عبد الله الثَّقفي ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ، فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا» )).
ألا فالخوفَ الخوف، والفزعَ الفزع، والنجاةَ النجاة، مِن هذا اللسان، قبل ساعة السِّياق، وبُلوغ الروح التراقي، قبل أنْ يُقال: أينَ المفر؟ يوم يَفِر المرء مِن أعزِّ الناس عليه، وأقربِهم إليه، وأشفقِهم لديه، وأكرمِهم عنده، وأجلِّهم وأحبِّهم وأرفعِّهم، { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ }.
أيُّها المسلمون:
إنَّ بعض أهل الإسلام مِن الذكور والإناث قد درَجت ألسنتهم على اللَّعن، درَجت على لعن بعضهم لبعض، حتى أصبح اللَّعن يُسمع مِنهم كثيرًا جدًا، ويُسمع مِن الجَدِّ والجدَّة، والوالد والوالدة، والأخ والأخت، والعمِّ والعمَّة، والخال والخالة، والزوج والزوجة، والقريب والقريبة، والمعلِّم والمعلِّمة، والصَّاحب والصَّاحبه، والعاقل الرَّزين وضعيف العقل، والوجيه وغير الوجيه، والمُسِن والعجوز، والشَّاب والشَّابة، والصغير المُميِّز وغيرِ المُميِّز.
وتسمعه في البيوت وأماكن العمل، وفي المدارس والمراكز، وفي المجالس والمُلتقيات، وفي الطرقات والمنتزهات، وفي الملاعب والمحافل، وفي الفضائيات والإذاعات.
وتراه يَخرج على أمور يسيره، وزلَّات خفيفة، بل قد يخرج مِن بعضهم في حال اللِّعب والمزح والهزْل والشِّعر، ويَنطق بِه وهو ومَن حوله يضحكون.
حتى إنَّك لتسمع مِن بعض الناس شديدَ اللَّعن وأنكَرَه، وأغلظَه وأبشعَه، وأقبحَه وأسوأَه، وقد يكون صادرًا عنهم في حق أنفسهم، أو حق والديهم، أو حق أبنائهم وبناتهم، أو حق إخوانهم وأخواتهم، أو حق زوجاتهم وأزواجهم، أو حق أصحابهم وجلسائهم، أو حق معلِّميهم ومعلِّماتهم، أو حق حكامهم وأمرائهم.
بل قد يَحسَب السامع أنَّ النُّطق باللَّعن قد أصبح عند بعض مَن يراهم ويسمعهم ويُخالطهم ويُجالسهم مِن أسهل الكلام وأيسره، وأخَفِّ القول وأهونِه، إذ يَراه يخرج مِنهم مِرارًا، ويصدُر عنهم كثيرًا، ويسمعه مِنهم في أحوال متعدِّدة، وأوقات مختلفة، وفي الجِدِّ والهزْل، وحين اللَّعب والسُّرور، وحال الضحك والمزاح، وعند الغضب وعدمه، وعلى حقير الأمر وجليلها، وفي حق الصغير والكبير، ومع القريب والبعيد، والصاحب والعدو.
أيُّها المسلمون:
أَمَا طرقَ أسماع أهل اللَّعن، أَمَا قرأت عيون اللَّعانين، أَمَا أفزَع قلوب مَن يلعن أخاه المسلم، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن اللَّعن واللّعانين ولعن المسلم مِن أحاديث عديدة وشديدة؟
أَمَا كفاهم أنَّه صلى الله عليه وسلم قد نفى أنْ يكون اللَّعن مِن صفات المؤمن وخِلاله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ، وَلَا بِلَعَّانٍ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ )).
أمَا أيقضهم أنَّ اللَّعان يُبعد نفسه عن مرتبة عظيمة وجليلة، وهي مرتبة الصِّديقِيَّة، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا )).
أَمَا رَدَعَهم أنَّ سِباب إخوانهم في الدِّين فسوق، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ ))، أفيرضى عاقل بأنْ يَدخل نفسه في الفسوق؟
أَمَا أيقظهم أنَّ لعن المسلم لأخيه المسلم مِن أسباب حرمان النفس أنْ تكون مِن الشفعاء والشهداء عند الله يوم القيامة، فقد صحَّ: (( أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ فَدَعَا خَادِمَهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ، لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
أمَّا ردَّهم وأوقفهم عن لعنهم لإخوانهم المسلمين أنِّ اللَّعنة تُغلق دونها أبواب السماء وأبواب الأرض، فإنْ لم تجد الملعون يستحقها رجعَت إلى قائلها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا )).
أمَّا زجَرَهم وأخافهم مِن لعن إخوانهم المسلمين موقف الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ مِن خطيئة اللَّعن، فقد ثبت عن سلَمة بن الأكوع ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ، رَأَيْنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ )).
أَمَا أمسك ألسنتهم أنَّ لعن المسلم لأخيه المسلم مِن فُحش القول، وأنَّ الله تعالى لا يُحب الفُحش ولا التَّفحُّش، ويُبغض صاحبه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ ))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الله لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ )).
ألا فاتقوا الله ربَّكم واهجروا سيئة اللَّعن، ولا تورِّطوا أنفسكم فتكونوا مِن اللَّعانين الآثمين والمحرومين مِن الخير بسبب لعنهم، واستمرارهم عليه، وإكثارهم مِنه، وتساهلهم فيه، وقد حذَّر ربُّكم مِن مخالفة شرعه وتهدَّد فقال سبحانه: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
وسبحان ربِّك، ربّ العِزَّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسَلين.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــ
الحمد لله العليِّ العظيم، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ الموصوفِ بأنَّه على خُلٌق عظيم، وعلى آله وصحابته أكابِر أهل الدين العلم، وعنَّا معهم يا كريم.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ بعض الناس قد يقع في أشنَع اللَّعن وأبشعِه وأقبَحِه، حيث يلعن أباه أو أمَّه، إمَّا بٍنُطقٍ مِن لسانه أو بتسبُّب مِنه في لعنهما، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )).
أيُّها المسلمون:
إنَّ اللَّعن لمذمومٌ ومٌستهجَنٌ حتى في حق الدَّواب التي نركبها، فقد صحَّ عن عمران بن حصين ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ )).
وصحَّ عن أبي بَرْزَة الأسلَمِي ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ» )).
وَ كلمة (( حَل )) تُقال لاستحثاث الإبل على الحركة والسَّير.
هذا وأسأل الله تعالى أنْ يُطهِّر قلوبنا مِن الغِل والحِقد والحسد، وأن يُطهِّر ألسنتنا مِن الغيبة والنميمة والسَّب والشَّتم واللَّعن والكذب والفجور، اللهم احفظ علينا أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عن كل ما يُغضبك، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيئها لا يصرف سيئها عنَّا إلا أنت، اللهم ارفع الضر عن المتضررين مِن المسلمين في كل أرض، اللهم احفظ علينا أمْنَنا وعلى إخواننا المسلمين في جميع بلدانهم، ووفِّق ولاتنا وولاتَهم لِما فيه رضاك، وأصلح لنا أهلينا ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، واغفر لنا ولوالدينا، وثقل موازيننا وموازينهم، وبيِّض وجوهنا ووجوهم يوم نلقاك، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واجعل قبورهم مِن رياض الجِنان، إنَّك سميع الدعاء.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.