التَّرغيب في الرِّفق واللِّين والتَّرهيب مِن العُنف والفَظَاظة
الخطبة الأولى:ــــــــــــــ
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه على ما أسْداه وأولاه من الإنعام والإكرام والخير الكثير، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا ظهير، وأشهد أنَّ محمدُا عبده ورسوله السِّراجُ المنير، والبشير النذير، فاللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومَن على سبيله إليك يسير، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ مِن السَّجايا الجميلة النَّيِّرة، والخِلال النبيلة المُحَبَّبة، والطِّباع الشريفة المليحة، والفِعال المحمودة شرعًا وعقلًا، والأخلاق السَّامية الرفيعة: الاتِّصافَ بالرِّفق واللِّين في الأفعال والأقوال، وحال الغضب والرضا، وعند الضيق والسَّعة، ومع البعيد والقريب، والأخذَ والإعطاء مع الخَلق كلهم بالأسهل والأجمل والأيسر، والدفعَ في جميع الأحوال بالأخَفِّ والأحسن والأرفق.
وقد قال الله – عزَّ وجلّ – مُمتنًّا على نبيِّه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم اتصافه بهذا الخُلق، وداعيًا لنا للاقتداء بِه فيه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }.
وصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُبشِّرًا أهلَ ذلك الخُلق ومُحرِّضًا: (( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى )).
وقال سبحانه مبيِّنًا لنا بعض آثار هذا المسلك الجميل: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.
وقال – جَّل وعلا – آمرًا باستعمال ذلك مع أهل الإيمان بِِه: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُرغِّبًا في ذلك وواصفًا أهله:(( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ )).
أيُّها المسلمون:
إنَّ المؤمنَّ قويَّ الإيمان رفيقٌ بالمؤمنين في أقواله وأفعاله، هيِّنٌ ليِّنٌ معهم في تعامله، لطيفٌ في معاشرته، تتغشاه السُّهولة والتيسير، وتملؤه السَّماحة والسَّلاسة، وتكسوه البشاشة والبِشْر، صدره رَحْب حتى مع خصمٍ له وجاهل، ونَفْسه تُجانب الغِّل والحقد والضَّغينة، عاملٌ بقول ربِّه وخالقه – عزَّ شأنه -: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا }، ومتبعٌ لِمَا ثبت عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وحُسْنُ الخُلُقِ )).
أيُّها المسلمون:
إنَّ الرِّفق بالصغير والكبير والذكر والأنثى في القول والفعل، ووقت العُسر واليُسر، والسُّكون والوَحْشة، ليمَسُّ بلُطفه قلوب الخصوم وأهلَ الجفوة فيُحوِّلَها مِن قسوتها وجَفوتها وبُغضها ونُفرتها إلى تعاطُفها وتقاربها ومحبتِها، ومِن شدَّتها وغِلظَتها إلى رقَّتها ولُطفها، ومن عَطَنِها وعطَبِها إلى سعتها وسلامتها.
وقد بيَّنت نصوص القرآن والسُّنة النبوية ثمارَ هذا الخُلق والطَّبع، وعظيمَ فوائده وعوائده، وآثارَه على الغير، وكبيرَ أجره ومنزلته، فصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَما لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ))، وقال الله سبحانه: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }.
بل إنَّ الرِّفق ما صاحب حالًا، ولا تصرُّفًا، ولا مسلَكًا، ولا قولًا، ولا فعلًا، إلا زيَّنَه وجمَّله وحبَّبه إلى الخَلق، وجاءت أهلَه الخيرات، وحلَّت بهم البركات، وكثُرت لهم الحسنات، وعامَلهم الناس بما يُحبِّون، ولا نُزِع من حال، ولا قولٍ، ولا فعلٍ، إلا شانَه وكدَّرَه وكرَّهه إلى النفوس، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )).
أيُّها المسلمون:
إنَّ الرِّفق إذا زال عن أقوال العبد وأفعاله، ومِن تصرفاته الحياتية، وفي تعاملاته الاجتماعية، وعلاقاته الأسرية، فقد جانَبه الخير، وغَمَرته الخسارة، وتناوشته الشرور، وأبغضه الناس، ونفَروا عنه، وكرِهوا لقياه والحديثَ معه، ومَن لايَنه منهم وجامَله في الظاهر، فقلبه يُبغضه، ويتمنَّى عدم لقياه، ويَطلب البعدَ عنه، بل حتى أهله يتحاشونه، وينفِرون عنه، وقد صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ ))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا أَرَادَ اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ – بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ )).
فكُن – أيُّها المؤمن الكريم – رفيقًا بالناس، ليِّنًا مع القريبين مِنهم والبعيدين، هيِّنًا في تعاملاتك، سهلاً وسمحًا في أخذِك وإعطائِك، وتجنَّب الغِلظة والخُشونة، والجَفوة والحماقة، والرُّعونة والصَّفَاقة، وحاذر مِن العُنف بشتَّى أشكاله، ومُختَلَف صوره، وانْءَ بنفسك عن الفَظاظة والشِّدَّة والقسوة، ولو كان ذلك في الجوانب الخيِّرَة، لاسيَّما في الدعوةِ إلى الله – جلَّ وعزَّ -، والأمرِ بالمعروف والنهيِّ عن المنكرِ، والنُّصحِ والإرشاد، والتعليم والتدريس، وفي الكتابة والمقال والردود، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُبشِّرًا لأهل ذلك: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ: عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ )).
أيُّها المسلمون:
إنَّ الرِّفق بمعناه الواسع الجميل الذي يدخل في جميع الأمور، ويشمل كل مجالات الحياة، ويكون مع جميع المُعَامَلِين، لمطلوبٌ مِن كل أحد، فيرفِق الوالي برعيَّته، ويرفِق المحكوم بحاكمه، ويرفق القاضي في قضائه، ويرفق المسئول بمَن تحت مسؤوليَّته، ويرفق الوالد بولده، ويرفق الزوج بزوجه، ويرفق الجار بجاره، ويرفق الصاحب بصاحبه، ويرفق الكبير بالصغير، ويرفق الشاب بالمُسِنّ، ويرفق الأبناء والبنات بآبائهم وأمهاتهم، ويرفق التاجر بمَن يعمل لديه، ويرفق العامل بصاحب العمل، ويرفق البائع بالمشتري، ويرفق المِهَنِيُّ بمَن استأجره وعامَله، ويرفق الطبيب والمُمرِّض بالمريض، ويرفق الغني بالفقير، ويرفق المدرس بالطالب، ويرفق الإخوة والأخوات ببعض، طاعة لله – عزَّ وجلَّ – حيث قال آمرًا عباده: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }، وعملًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (( يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ ))، وبُعدًا عن ما يًغضب الله تعالى علينا مِن الأخلاق والخِصال، وتثقيلًا لميزان حسناتنا، حيث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ أَثْقَلَ مَا وُضِعَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ ))، وتأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملته للناس، فقد صَحَّ عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّه قال: (( خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا ))، وطلبًا للجنة ونعيمها الذي لا ينقطع، إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه: (( سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ )).
فاتقوا الله ربَّكم بالتَّحلِّي بهذه الأخلاق الفاضلة، والخِصال الحميدة، في جميع أحوالكم وأعماركم، لعلكم تُرحمون وتُفلحون.
الخطبة الثانية:ــــــــــــــ
الحمد لله المحمود على كل حال، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد طيِّب الخِصال، وعلى الصَّحْب الكرام له والآل، وعنَّا معهم يا كبير يا مُتعال.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ من أسوأ الأخلاق، وأقبَح الصفات، وأصفق الخِلال: الفُحشَ بالقول أو الفِعل، أو في المُزاح، أو في الأخذ والإعطاء، وأشباه ذلك.
حيث ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَفَى أنْ تكون هذه الصفة مِن خِلال المؤمن وسجاياه فقال صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ )).
إذ كلُّ تصرُّفٍ وحال وموقف خالطه الفُحش فهو قبيحٌ ومذمومٌ شرعًا وطبعًا وعقلًا، وشَانَ ما قارنَه وداخَلَه، لِمَا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ )).
أيُّها المسلمون:
احرصوا شديدًا على استعمال الرِّفق واللِّين في صفُوفكم، ومع بعضكم البعض، فيظهرُ في كلامكم، وفي أفعالكم، وفي مواقفكم، وفي عُسرِكم ويُسرِكم، وفي مقالاتكم، وفي ردودكم، وفي نُصحكم، وفي تغريداتكم، وفي رسائلكم، مع التَّزيُّن بالحِلم، والتَّضَلُع بالأَنَاة، والترقِّي بسَعَة الصَّدر، والتَّجمُل بسلاسة النفْس والنفَس، إذ الرّفق محمود في نفسه، ومحمود في عواقبه وثماره، ويُضادُّه العُنف والحدَّة، والغِلظة والشِّدة، والقسوة والشَّراسة، وهما نتيجة الغضب والفَظاظة، والرِّفق واللِّين نتيجة حُسن الخُلق وسلامة الصَّدر، ولا يُحَسَّنُ الخُلق إلّا بضبط قوَّة الغضب، وكَبْح جِماح الشهوة والطمع.
ويا لله كم مِن صاحبٍ قد فَارَقه رِفاقه أو بعضُهم أو افترق عن زوجه أو ولده بسبب عُنفه وعَجَلته، وعدم تعَقُّله؟ وكم مِن تباغضٍ وتَنافرٍ حصلَ أو زاد بسبب العُنف والعَجَلة، وعدم التَّعُّقلَ؟ وكم مِن رَحِمٍ قريبة قُطعت بسبب تعنيفٍ بقول، وقسوةٍ في فعل، وشراسةِ طبع؟ وكم مِن حَقٍّ رُدَّ ولم يُعمل بِه بسبب تعنيف، وحِدَّة طبْع وخشونة؟
ولا ريب أنَّ الإنسان إذا عامَل النَّاس بالرِّفق واللِّين وجَد في صدره لذَّة وانشراحًا، وراحة بالٍ وطُمأنينة، وأدرَك حاجته وقضاها أو حصَّل بعضها، وإذا عاملهم بالشِّدة والعُنف نَدِم وأسِف وضاقت عليه نفسه، وتمنَّى أنْ لم يكن فَعَل، ولكن بعد فوات الأوان، ولم يُدرِك حاجته، وإِنْ أدرَكها فبمشقَّةٍ وذَمَ.
وقد أحسن من قال:
لو سارَ ألفُ مُدَجَّجٍ في حاجةٍ … لم يَقْضِها إلا الذي يَتَرَفَّقُ
وصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأشجِّ عبدِ قَيسٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ )).
وكان يُقال أزمنة السَّلف الصَّالح ــ رحمهم الله ــ: (( مَا أَحْسَنَ الْحِلْمُ وَيُزَيِّنُهُ الرِّفْقُ )).
هذا وأسأل الله ربِّي وربِّكم أنْ ينفعني وإيَّاكم بما سمعتم، وأنْ يجعلنا مِمَّن يستمعون القول فيتبِعون أحسنه، اللهم ثبّت قلوبنا على التوحيد والسُّنة إلى الممات، وارفع الضُّر عن المُتضرِّرِين مِن المسلمين في كل أرض وبلاد، وأعذنا وإيَّاهم مِن الفتن ما ظهر مِنها وما بَطن، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيِّئَها فلا يَصرفها إلا أنت، اللهم سدِّد الولاة ونُوَّابَهم وجندَهم لمراضيك، وانصر بهم دينك، واغفر لنا ولجميع أهلينا وجيراننا ورِفاقِنا، وأكرمنا برضوانك والجنَّة، إنَّك يا ربَّنا سميع الدعاء، واسع العطاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.