تذكير الخائفين الغيورين بأن الموسيقى محرمة بإجماع أئمة الدين
الحمد لله الذي بيَّن الحلال من الحرام، وماز الحق من الباطل، وأقام الحجة على كل عاقل، بنصوص شرعية واضحة بيِّنة، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وإرشاداً للجاهلين، وهداية للغاوين، فبلغ الرسالة، وأوضح الدلالة، وأزال الجهالة، فلم يُبقِ عذرًا لمعتذِر، ولا حجة لمحتجّ، وعلى أزوجه وذريته وباقي آل بيته وأصحابه.
أما بعد، أيها الفضلاء النبلاء – جملكم الله بالاستمساك بدينه القويم إلى الممات -:
فإن مما لا ريب فيه أننا نعيش في زمن قد تكاثرت فيه الفتن، وتوسعت الشرور، وتعددت المنكرات، يَقذف بها دعاة البدعة والضلالة من جهة، ودعاة الفساد والرذيلة من جهة أخرى، حتى أثَّروا في أعداد غفيرة، فاستسهلوا انتهاك المحرمات، وفعل الخطيئات، وشاعت في صفوفهم ومجالسهم وبلدانهم.
ألا وإن من الفتن والشرور الغليظة التي قذفوها بين الناس، والمنكرات الفظيعة التي سهَّلوها لهم، والجرائم الشنيعة التي كثَّروها في مجالسهم ومجتمعاتهم، والأقوال المحرمة الباطلة التي أشاعوها:
أولًا: الافتاء بأن سماع الموسيقى والعزف على آلاتها:
حلال لا حرج فيه شرعًا.
وثانيًا: التفريق في الحكم بين موسيقى وأخرى:
فالصاخبة المثيرة للغرائز محرمة، والهادئة أو العسكرية مباحة.
وثالثًا: الإجابة حين الاستفتاء عن سماع الموسيقى أو العزف على آلاتها:
بأن العلماء – رحمهم الله – قد اختلفوا في الحكم، فمنهم من أباح، ومنهم من حرَّم.
وهذا الكلام ـ مع الأسف الشديد ـ قد طرحه على مسامع الناس وأمام أعينهم بعض من صدَّر نفسه وصُدِّر للتوجيه والإرشاد والإفتاء والوعظ في بعض “القنوات الفضائية”، و”الإذاعات” المتنوعة، و”الجرائد والمجلات” المختلفة، أو اشتغل بالتدريس والخطابة والإمامة، وذكروه في بعض مقالاتهم أو كتبهم أو برامجهم أو لقاءاتهم أو تغريداتهم.
ولو أدام هؤلاء القوم النظر والتفكير فيما أفتوا به، لعلموا أنهم قد جمعوا على أنفسهم بهذه الفُتيا شرورًا عظيمة، وأضرارًا جمة، وقادوها إلى بلايا كبيرة، وأوردوها مهالك عدة.
ومن هذه الشرور والبلايا والمهالك:
أنهم قد أوقعوا أنفسهم وورطوها بتحليل ما حرم الله تعالى على عباده.
حيث أباحوا للناس عزف وسماع الموسيقى، وعزفها وسماعها محرم بنص السنة النبوية، وإجماع أهل العلم بالشريعة، لا خلاف بينهم في ذلك.
أما السنة النبوية فدونكم بعض ما جاء فيها من أحاديث:
الحديث الأول:
أخرج الإمام البخاري – رحمه الله – في “صحيحه”(5268) عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ )).
والمعازف هي:
آلات اللهو التي يُعزف بها كالعود والمزمار والطبل والطنبور والشبابة والصنوج وغيرها.
بل قال الإمام ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في كتابه “إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان”(1/ 291):
المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك.اهـ
وقد دَلَّ هذا الحديث النبوي على حرمة العزف على آلات المعازف، وحرمة الاستماع إليها.
وأُخذ التحريم من ثلاثة أوجه:
الأول: من قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (( يَسْتَحِلُّون )).
لأن الاستحلال لا يكون إلا لشيء قد حُرِّم.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قرن استحلالها باستحلال الخمر، والفروج المحرمة، والحرير.
وهذه الأشياء مشتهر ومستفيض تحريمها في الشريعة، ومشهور بين المسلمين.
الثالث: أنه قد جاء في سياق الذم والقدح لمن وقع في هذا الاستحلال.
وهو حديث صحيح، وقد صححه جمع كثير من أهل العلم، من مختلف العصور والبلدان والمذاهب.
وممن صححه:
البخاري، والإسماعيلي، والبرقاني، وابن حبان، وابن الصلاح، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن كثير، وابن رجب الحنبلي، وابن جماعة، وابن بدران الدشتي الحنفي، وابن الملقن، وزين الدين العراقي، وبدر الدين العيني، ونورد الدين الهيثمي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والسخاوي، والسيوطي، وابن الوزير، وابن الأمير الصنعاني، وأحمد شاكر، ومحمد الأمين الشنقيطي، والألباني، وابن باز، والعثيمين، ومقبل الوادعي، ومحمد علي آدم الإثيوبي.
الحديث الثاني:
أخرج الإمامان أحمد (1/ 278 و 289 و 350) واللفظ له، وأبو داود (3696) – رحمهما الله – عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْكُوبَةَ )).
وقد صححه جمع من أهل العلم، منهم:
ابن حبان، وبدر الدين العيني، وابن الملقن، وابن حجر الهيتمي، وأحمد شاكر، والألباني.
والكُوبة هي: الطبل.
ذكر ذلك ابن الأعرابي وابن دريد والجوهري وابن فارس وابن سيده – رحمهم الله – من أهل اللغة.
وكذلك فسره راوي الحديث علي بن جذيمة – رحمه الله -، وجماعات من الأئمة.
ووجه الاستلال من هذا الحديث:
أن فيه تحريم أحد آلات المعازف، ومن أقلها طربًا.
فكيف بما هو أشد إطرابًا وتطريبًا؟
الحديث الثالث:
أخرج الأئمة النسائي (3385)، والحاكم (2/ 183-184)، والطبراني في “المعجم الكبير”(17/ 247 – رقم:690) واللفظ له، والبيهقي (7/ 289) – رحمهم الله – عن عامر بن سعد البَجَلي – رحمه الله – أنه قال:
(( دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَثَابِتِ بْنِ زَيْدٍ وَجَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِدُفٍّ لَهُنَّ وَتُغَنِّينَ، فَقُلْتُ: أَتُقِرُّونَ بِذَا وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ رُخِّصَ لَنَا فِي الْعُرْسِ )).
وقد صحه:
الحاكم، والذهبي، والألباني، وحسنه محمد علي آدم الإتيوبي.
وذكره الدارقطني في “الإلزامات”.
ووجه الاستدلال منه:
أن الرخصة في الضرب بالدف بالعرس للنساء تدل على النهي عنه في غير العرس لعموم الأشخاص.
والدف من أقل آلات المعازف طربًا وتطريبًا، فكيف بما هو أشد إطرابًا وتطريبًا؟
وأما الإجماع، وأنه لا خلاف بين العلماء في حرمة سماع الموسيقى وعزفها، فقد نقله جمع كثير جدًا من أهل العلم والفقه، ومن مختلف العصور، والبلدان، والمذاهب.
ودونكم بعض من وقفت على ذكره للإجماع، مع الاسم، والمصدر:
1- الإمام محمد بن الحسين الآجري شيخ الحرم المكي في زمانه ـ رحمه الله ـ المولود سنة (280هـ وقيل:264)، كما في كتاب “نزهة الأسماع في مسألة السماع”(ص:25) لابن رجب الحنبلي البغدادي.
2- شيخ الشافعية القاضي أبو الطيب الطبري ـ رحمه الله ـ المولود سنة (348هـ)، كما في كتاب “نزهة الأسماع في مسألة السماع”(ص:62-64) لابن رجب الحنبلي البغدادي.
3- الشيخ أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي الشافعي المقرئ المحدث ـ رحمه الله ـ المولود سنة (360هـ ونيف)، كما في كتاب “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:124)، وكتاب “الزواجر عن اقتراف الكبائر”(2/ 347) لابن حجر الهيتمي الشافعي.
4- الإمام الحسين بن مسعود البغوي الشافعي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (436هـ)، كما في كتابه “شرح السنة”(12/ 383).
5- الشيخ جمال الإسلام ابن البِزري الشافعي عالم أهل الجزيرة ـ رحمه الله ـ المولود سنة (471هـ)، كما في كتاب “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:114)، و كتاب “الزواجر عن اقتراف الكبائر”(2/ 342) لابن حجر الهيتمي الشافعي.
6- الشيخ القاضي ابن أبي عصرون عبد الله بن محمد التميمي عالم أهل الشام ـ رحمه الله ـ المولود سنة (492هـ)، كما في كتاب “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:115) لابن حجر الهيتمي الشافعي.
7- الفقيه أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الأندلسي المالكي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (520هـ) في كتابه “تحريم الغناء والسماع”(ص:223 – فقرة:87).
8- الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (541هـ) في كتابه “المغني”(12/ 457)، وكتاب “النهي عن الرقص والسماع”(2/ 558) لابن بدران الدشتي الحنفي.
9- المحدث الفقيه أبو عمرو بن الصلاح الشافعي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (557هـ) كما في كتاب “فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه”(2/ 500 – مسألة رقم:487).
10- فقيه المالكية أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي المالكي المولود سنة (578هـ) في كتابيه “كشف القناع عن حكم الوجد والسماع”(ص:72)، و”المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم”(3/ 403)، وكتاب “الزواجر عن اقتراف الكبائر”(2/ 337 و 348) لابن حجر الهيتمي الشافعي، و”الرهص والوقص لمستحل الرقص” لإبراهيم الحلبي الحنفي”(ص:72).
11- الشيخ محمود بن أبي القاسم إسفدنار بن بدران الدشتي الكردي الحنفي ـ رحمه الله ـ المولد سنة (604 أو 605 أو قريب منهما) في كتابه “النهي عن الرقص والسماع”(2/ 511 و 546 و 550 و 676 و 729 و 744 و 367).
12- الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ـ رحمه الله ـ المولود سنة (631هـ) كما في “مجموع الفتاوى”(28/ 118 و 11/ 576-577 و 597 و 603).
13- الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي – رحمه الله – المولود سنة (700هـ) كما في جواب له ملحق بكتاب “الكلام على مسألة السماع”(ص:472) لابن قيم الجوزية.
14- الشيخ الفقيه شهاب الدين الأذرعي الشافعي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (708هـ) كما في كتاب “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:120) لابن حجر الهيتمي الشافعي.
15- الشيخ الفقيه أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي ـ رحمه الله ـ المتوفى سنة (772هـ) في شرحه على “مختصر الخرقي”(6/ 351).
16- الحافظ زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب المشهور بابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (736هـ) في كتابيه “فتح الباري شرح صحيح البخاري”(6/ 83 – عند حديث رقم:952)، و”نزهة السماع في مسألة السماع”(ص:60 و 25).
17- الشيخ محمد البزازي الكردي الحنفي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (827هـ) كما في كتاب “البحر الرائق شرح كنز الدقائق”(7/ 89) لابن نجيم الحنفي، وكتاب “الرهص والوقص لمستحل الرقص” لإبراهيم الحلبي الحنفي”(ص:72 و 85).
18- الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيتمي الشافعي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (909هـ) في كتابيه “كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:124)، و”الزواجر عن اقتراف الكبائر”(2/ 347 و 348).
19- الشيخ إبراهيم بن محمد الحنفي المشهور بالحلبي ـ رحمه الله ـ في كتابه “الرهص والوقص لمستحل الرقص”(ص:75 و 92 و 85-86).
20- الشيخ أبو الليث السمرقندي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب “النهي عن الرقص والسماع” لابن بدران الدشتي الحنفي”(2/ 548) المولود سنة (604 أو 605 أو قريب منها).
21- الشيخ أبو المحاسن الحراني الحنبلي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب “النهي عن الرقص والسماع” لابن بدران الدشتي الحنفي”(2/ 549) المولود سنة (604 أو 605 أو قريب منها).
22- الشيخ محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري الهندي – رحمه الله – المتوفى سنة (1353هـ) في كتابه “فيض الباري على صحيح البخاري”(2/ 463).
23- العلامة عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (1312هـ) في كتابه “حاشية الروض المربع”(7/ 357).
23- العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز النجدي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (1330هـ) كما في “مجموع فتاويه”(3/ 393).
24- العلامة محمد ناصر الدين الألباني الدمشقي ـ رحمه الله ـ المولود سنة (1914م) في كتابيه “تحريم آلات الطرب”(ص:105)، و”سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها”(5/ 330).
ومن هذه الشرور والبلايا والمهالك:
أنهم قد كَذبوا على الناس، حين زعموا:
أن الموسيقى مُخْتَلَفٌ فيها بين أهل العلم – رحمهم الله -، فمنهم من أباحها، ومنهم من حرمها.
حيث تقدم النقل قريبًا عن أربعة وعشرين عالم من مختلف المذاهب، والبلدان، والعصور، على:
أنه لا خلاف بين أهل العلم والفقه – رحمهم الله – في تحريم الموسيقى.
بل قد نَقل إجماعاتهم هذه جماعات غفيرة جدًا من أهل العلم دون تعقب أو اعتراض عليها.
وقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي البغدادي ـ رحمه الله ـ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري”(6/ 83 – عند حديث رقم:952):
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يُعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى.اهـ
وقال الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه” كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع”(ص:124):
الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصنج ـ أي ذي الأوتار ـ والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريج، وغير ذلك…، هذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافًا فقد غلظ، أو غلب عليه هواه، حتى أصمه وأعماه، ومنعه هُداه، وزل به عن سَنن تقواه، وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي، وهو الثقة العدل.اهـ
ولا شك أن الكذب من أعظم الذنوب وأشنعها وأجرمها عند الله تعالى، وعند عباده المؤمنين، ويزداد في الجرم، ويَعْظم ويَكْبر ويشتد إذا كان في مسائل الدين، وأحكام الشريعة، لما يترتب عليه من إضلال الناس، وسَوقهم إلى فعل المحرمات، وجرهم إلى ما هو أعظم وأقبح وأشنع، وهو اعتقاد حِلِّ ما حرم الله تعالى، كاعتقاد حل سماع الموسيقى والعزف على آلاتها.
ومن هذه الشرور والبلايا والمهالك:
أنهم قد تسببوا في ازدياد فعل ونشر هذا المحرم بين المسلمين، وفي بيوتهم ومراكبهم ومجالسهم وملتقياتهم وطرقاتهم وسائر بلادهم، ومن قِبَل صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم.
وقد جاء في شأن دعوة ودعاة الناس إلى الضلال والحرام والمعاصي والمنكرات تهديد شديد، ووعيد غليظ، وترهيب عتيد، ترجف له الأفئدة، وتقشعر منه الجلود، فأخرج الإمام مسلم – رحمه الله – في “صحيحه”(2674) عن أبى هريرة أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا )).
وقال الإمام عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ في كتابه “جوامع الأخبار”( رقم:10) عقب هذا الحديث:
هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث فيه:
التحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعِظم جُرم الداعي وعقوبته.اهـ
وتصديق ذلك في كتاب الله – عزَّ وجلَّ – قوله سبحانه في سورة النحل:
{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }.
وقال تعالى في سورة العنكبوت:
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }.
وأخرج الإمام النسائي – رحمه الله – في “سننه”( 4135) بسند صحيح عن إمام أهل الشام في زمانه في الفقه والحديث أبي عمرو الأوزاعي – رحمه الله – أنه قال:
(( كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ كِتَابًا فِيهِ: « وَإِظْهَارُكَ الْمَعَازِفَ وَالْمِزْمَارَ بِدْعَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَجُزُّ جُمَّتَكَ جُمَّةَ السُّوءِ»)).
وقال الإمام الألباني – رحمه الله – في التعليق على “سنن النسائي”:
صحيح الإسناد.اهـ
ومن هذه الشرور والبلايا والمهالك:
أنهم سيصدون اليوم ومع تعاقب الزمان بكلامهم هذا الكثير من العازفين على آلات الموسيقى أو السامعين لها عن التوبة إلى ربهم، والإقلاع عن هذه المعصية الشنيعة، وهجر هذا المنكر القبيح، والذنب الكالح، لا سيما من كانت نفسه تدعوه إلى التوبة، ويدعوه من حوله إلى الاستمرار.
وقد أظهرت لنا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في هذه الأيام لقاءات وتصريحات لبعض من تاب من الغناء والموسيقى سنين عديدة، ثم عاد إليهما ورجع بسبب فتاوى بعضهم الباطلة بشأنهما.
والله تعالى قد أوجب على عباده جميعًا الإقلاع عن الذنوب والمعاصي جميعها، فقال – عز وجل – في سورة التحريم:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }.
وقال عمر بن الخطاب وابن مسعود – رضي الله عنهما – وغيرهما من السلف الصالح:
(( التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودُ )).
ولما كان الفلاح لا يرجوه إلا التائبون، أمر الله تعالى أهل الإيمان به أن يتوبوا، فقال الله سبحانه في سورة النور:
{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
وأخرج الإمام مسلم – رحمه الله – في “صحيحه”(2702) عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ )).
وقال الله – جل وعلا – في سورة الحجرات محذرًا ومرهبًا:
{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في كتابه “مدارج السالكين”(1 / 196) عند هذه الآية:
قسَّم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ قَسْم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه، لجهله بربه، وبحقه، وبعيب نفسه، وآفات أعماله.اهـ
وقال الفقيه أبو عبد الله القرطبي المالكي – رحمه الله – في “تفسيره”(12/ 238):
ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين.اهـ
ومن هذه الشرور والبلايا والمهالك:
أنهم خالفوا بإباحتهم للموسيقى سبيل العلماء الماضين فيما أجمعوا عليه واتفقوا: من حرمة الموسيقى.
ولا يحل لهم ولا لغيرهم ذلك، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة البتة، ومخالفتها شر وضرر وهلكة.
وقد قال الله – عزَّ وجلَّ – في سورة النساء مرهبًا من مخالفة سبيل المؤمنين فيما كانوا عليه من اعتقاد أو عمل أو حكم:
{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }.
وقال الإمام عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – في “تفسيره”(ص:202) عند هذه الآية:
وقد استدل بهذه الآية الكريمة على:
أن إجماع هذه الأمة حجة، وأنها معصومة من الخطأ.
ووجه ذلك:
أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } مفرد مضاف، يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال.
فإذا اتفقوا على إيجاب شيء، أو استحبابه، أو تحريمه، أو كراهته، أو إباحته، فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم.
ويدل على ذلك قوله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }.
ووجه الدلالة منها:
أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف.
فإذا اتفقوا على إيجاب شيء، أو استحبابه، فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفًا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر.
وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه، فلا يكون إلا منكرًا.
ومثل ذلك قوله تعالى:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس }.
فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطًا، أي: عدلًا خيارا ليكونوا شهداء على الناس، أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به، أو نهى عنه، أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة، لكونهم عالمين بما شهدوا به، عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم، ولا عالمين بها.
ومثل ذلك قوله تعالى:
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }.
يُفهم منها:
أن ما لم يتنازعوا فيه، بل اتفقوا عليه، أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة، فلا يكون مخالفًا.
فهذه الأدلة ونحوها، تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة.اهـ
وقال الفقيه أحمد بن علي بن برهان البغدادي – رحمه الله – في كتابه “الوصول إلى الأصول”(2/ 75):
وحقيقته أنا رأينا السابقين من السلف الصالحين يُعْظِمون النكير، ويُشدِّدون النَّفير على من خالف إجماع الأمة قبله.اهـ
هذا وأسأل الله تعالى أن يكف شرَّ هذه الفتاوى والكتب والمقالات والتغريدات عن عباده المسلمين ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، وأن يباعد بينهم وبين الدعاة إليها وقنواتها وكتبها ومواقعها، وأن يرزق الجميع التوبة النصوح، إنه سميع الدعاء.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.