كلام أهل العلم والدين في حكم الاجتزاء بالأضحية عن العقيقة إذا ضُحِّي بها عن المولود وحدَه
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصْطَفى.
وبعد:
فقد اختلف أهل العلم ــ رحمهم الله تعالى ــ في المولود الذي لم يُعَقّ عنه إذا ضُحِّي عنه بأضحية مُستقِلَّة، هل تُجزئ هذه الأضحية عن العقيقة؟ على قولين:
القول الأوَّل: الإجزاء.
وهو قول محمد بن سيرين، والحسن البصري، وقتادة، وهشام بن عروة، مِن التابعين، ورواية عن أحمد، وقول بعض الشافعية.
ودونكم ــ سدَّدكم الله وفقَّهكم ــ ما وقفْت عليه مِن أقوالهم، مع ذِكر القائل، والمَصدر:
أوَّلًا ــ قال ابن أبي شيبة في “مُصنَّفه” (24267):
حدثنا عثمان بن مطَر، عن هشام، عن الحسن، قال: (( إِذَا ضَحَّوْا عَنِ الْغُلَامِ فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ مِنَ الْعَقِيقَةِ )).
وفي إسناده عثمان بن مطَر، وهو ضعيف، وفي رواية هشام عن الحسن كلام يسير.
وله طريق آخَر:
حيث قال عبد الرزاق في “مُصنَّفه” (7966):
عن مَعمر، عن رجُل، عن الحسن، قال: (( وَإِذَا ضُحِّيَ عَنْهُ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الْعَقِيقَةِ )).
وفي إسناده راو لم يُسم.
ثانيًا ــ قال ابن أبي شيبة في “مُصنَّفه” (24268):
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن هشام وابن سيرين، قالا: (( يُجْزِئُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ مِنَ الْعَقِيقَةِ )).
وإسناده صحيح.
ثالثًا ــ قال عبد الرزاق في “مُصنَّفه” (7967):
عن مَعمر، عن قتادة، قال: (( مَنْ لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ أَجْزَأَتْهُ أُضْحِيَتُهُ )).
وإسناده صحيح.
رابعًا ــ قال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “تُحفة المَودود بأحكام المولود” (ص:126):
قال الخلَّال: “باب ما رُوي أنَّ الأضحية تُجزئ عن العقيقة”
أخبرنا عبد الملك الميموني، أنَّه قال لأبي عبد الله ــ ويعني بِه: أحمد بن حنبل ــ:
“يجوز أنْ يُضَحَّى عن الصَّبي مكان العقيقة؟.
قال: لا أدري، ثُمَّ قال: غير واحد يقول بِه، قلت: مِن التابعين؟ قال: نعم”.
وأخبرني عبد الملك في موضع آخَر، قال ذَكر أبو عبد الله أنَّ بعضهم قال: (( فإنْ ضَحَّى أجزأ عن العقيقة )).
وأخبرنا عصمة بن عصام، حدثنا حنْبل: أنَّ أبا عبد الله قال:
“أرجو أنْ تُجزئ الأضحية عن العقيقة ــ إنْ شاء الله تعالى ــ لِمَن لم يَعق”.
وأخبرني عصمة بن عصام في موضع آخَر، قال: حدثنا حنبل: أنَّ أبا عبد الله قال:
“فإنْ ضَحَّى عنه أجزأت عنه الضَّحية مِن العقوق”.
قال: “ورأيت أبا عبد الله اشترى أُضِحية ذبحها عنه وعن أهله، وكان ابنه عبد الله صغيرًا فذبحها، أُرَاه أراد بذلك العقيقة والأضحية، وقسَم اللحم، وأكل مِنها “.اهـ
خامسًا ــ جاء في كتاب “نهاية المُحتاج إلى شرح المِنهاج” (8/ 145)، للفقيه شمس الدين الرَّملي الشافعي ــ رحمه الله ــ:
“ولو نَوى بالشَّاة المذبوحة الأضحية والعقيقة حصلا، خِلافًا لِمَن زَعم خِلافه”.اهـ
وجاء في كتاب “حاشية الجَمَل على شرح المنهج” (5 / 264)، مِن كتب الشافعية أيضًا:
“ولو نَوى بالشاة المذبوحة الأضحية والعقيقة حصلا، خلافًا لِمَن زَعم خِلافه.اهـ شرح م ر”.انتهى.
واختار الإجزاء:
محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
وذَكر العلامة العثيمين ــ رحمه الله ــ أنَّه قول الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ.
فقال كما في “مجموع فتاوى ورسائل فضيلته” (25/ 107):
وإنْ كان قياس كلام ابن القيِّم جواز ذلك، حيث أجاز ــ رحمه الله ــ الجمع بين نِيَّة الأضحية والعقيقة في شاة واحدة، وفي كلامه نَظر، لاختلاف الحُكم بين الأضحية والعقيقة.اهـ
القول الثاني: عدم الإجزاء.
وهو المذكور في بعض كتب المالكية، وظاهر كلام أكثر الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد.
ورُوي عن قتادة مِن التابعين، والصَّحيح عنه الإجزاء.
ودونكم ــ وفَّقكم الله وفقَّهكم ــ ما وقفْت عليه مِن أقوالهم، مع ذِكر القائل، والمصدر:
أوَّلًا ــ قال ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” (24269):
حدثنا عثمان بن مطَر، عن سعيد، عن قتادة، قال: (( لَا تُجْزِئُ عَنْهُ حَتَّى يُعَقَّ عَنْهُ )).
وإسناده ضعيف، لِضَعف عثمان بن مَطر.
ثانيًا ــ قال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ في “مسائله عن أبيه الإمام أحمد” (944):
سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى، وهل يجوز أنْ تكون أضحية وعقيقة؟.
قال: لا، إمَّا عقيقة، وإمَّا ضحية، على ما سَمَّى.اهـ
ثالثًا ــ قال الفقيه شهاب الدين المالكي الشهير بالقَرَافي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الذَّخيرة” (4/ 166):
قال صاحب “القبَس”: قال شيخنا أبو بكر الفِهري:
“إذا ذبح أضحيته للأضحية والعقيقة لا تُجزئه، فلو أطعَمَها وليمةً للعرس أجزأه”.
والفرْق أنَّ المقصود في الأوَّلَيِن إراقة الدم، وإراقة الدم لا تُجزئ عن إراقتين، والمقصود مِن الوليمة الإطعام، وهو غير مُناف للإراقة، فأمكَن الجمْع.اهـ
رابعًا ــ جاء في كتاب “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل” (3/ 258)، للفقيه الحطاب الرُّعيني المالكي ــ رحمه الله ــ:
[ قال ابن عَرَفة: وفي “سَماع القرينين”: مَن وافق يوم عقيقةِ ولدِه يوم الأضْحى ولا يَملك إلا شاة عقَّ بِها.
ابن رُشد: إنْ رَجا الأضحية في تالييه، وإلا فالأضحية، لأنَّها آكد، قِيل: سُنَّة واجبة، ولم يَقُل في العقيقة.انتهى.
ونحوه للَّخْمِي.
فإنْ ذبح أضحيته للأضحية والعقيقة أو أطعَمَها وليمة، فقال في “الذَّخيرة”:
قال صاحب “القبَس”: قال شيخنا أبو بكر الفِهري:
“إذا ذبح أضحيته للأضحية والعقيقة لا يُجزئه، وإنْ أطعَمَها وليمةً أجزأه”.
والفرْق أنَّ المقصود في الأَوَّليِن إراقة الدم، وإراقة الدم لا تُجزئ عن إراقتين، والمقصود مِن الوليمة الإطعام، وهو غير مُناف للإراقة، فأمكَن الجمْع.انتهى. ].اهـ
خامسًا ــ قال الفقيه ابن حَجَر الهيتمي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “تُحفة المُحتاج في شرح المنهاج” (9/ 369-370):
وظاهر كلام المَتْن والأصحاب: “أنَّه لو نَوى بشاة الأضحية والعقيقة لم تحصل واحدة مِنهما”.
وهو ظاهر، لأنَّ كُلًّا مِنهما سُنَّة مقصودة، ولأنَّ القصْد بالأضحية الضِّيافة العامَّة، ومِن العقيقة الضِّيافة الخاصَّة، ولأنَّهما يَختلفان في مسائل كما سيأتي.
وبهذا يَتضح الرَّد على مَن زَعم حصولها، وقاسه على غُسل الجمعة والجنابة، على أنَّهم صرَّحوا بأنَّ مَبْنَى الطهارات على التداخل، فلا يُقاس بها غيرها.اهـ
وقال أيضًا كما في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 256):
[ الذي دَلَّ عليه كلام الأصحاب وجَرَينا عليه مُنذ سنين: “أنَّه لا تداخل في ذلك”.
لأنَّ كُلًّا مِن الأضحية والعقيقة سُنَّة مقصودة لذاتها، ولَهَا سببٌ يُخالِف الأُخْرى، والمقصود مِنه غير المقصود مِن الأُخْرى، إذ الأضحية فداءٌ عن النفْس، والعقيقة فداءٌ عن الولد، إذ بِها نُمُوُّه وصلاحه ورجاء بِرِّه وشفاعته.
وبالقول بالتداخل يَبطُل المقصود مِن كلٍّ مِنهما، فلم يُمكن القول بِه نظير ما قالوه في سُنَّة غُسل الجمعة وغُسل العيد، وسُنَّة الظهر وسُنَّة العصر، وأمَّا تحيَّة المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها، بل لعدم هتك حُرْمَة المسجد، وذلك حاصل بصلاة غيرها، وكذا صوم نحو الاثنين، لأنَّ القصْد مِنه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة، وذلك حاصل بأيِّ صوم وقَع فيه.
وأمَّا الأضحية والعقيقة فليستا كذلك، كما ظَهر مِمَّا قرَّرته، وهو واضح، والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سُبع بَدَنة أو بقرة، أمَّا لو ذَبح بَدَنة أو بقرة عن سَبعة أسباب، مِنها ضَحيَّة وعقيقة، والباقي كفارات، في نحو الحلْق في النُّسُك، فيُجزئ ذلك، وليس هو مِن باب التداخل في شيء، لأنَّ كل سُبع يَقع مُجْزيًا عمَّا نَوي بِه، وفي “شرح العُباب”: لو ولِد له ولدان ولو في بطنٍ واحدة فذبح عنهما شاة، لم يتأدَّ بِها أصل السُّنَّة، كما في “المجموع”، وغيره.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خِلافًا.اهـ
وبهذا يُعلم أنَّه لا يُجزئ التداخل في الأضحية والعقيقة مِن باب أولى، لأنَّه إذا امتَنع مع اتحاد الجْنس فأوْلَى مع اختلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ].انتهى.
واختاره عدم الإجزاء مِن المعاصرين:
الألباني، والعثيمين، وأحمد النَّجمي، وعبد المحسن العباد، وعُبيد الجابري.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “تُحفة المَودود بأحكام المولود” (ص:127) في بيان حُجَّة كلِّ قول:
ووجْه عدم وقوعها عنهما:
أنَّهما ذَبْحان بسببين مُختلِفين، فلا يَقوم الذَّبح الواحد عنهما، كدم المُتعة، ودم الفِدية.
ووجْه الإجزاء:
حصول المقصود مِنها بذبحٍ واحد، فإنَّ الأضحية عن المولود مشروعة كالعقيقة عنه، فإذا ضَحَّى ونَوى أنْ تكون عقيقة وأضحية وقَع ذلك عنهما، كما لو صَلَّى ركعتين يَنوي بِهما تحية المسجد وسُنَّة المكتوبة، أو صَلَّى بعد الطواف فرْضًا أو سُنًّة مكتوبة، وقع عنه وعن ركعتي الطواف، وكذلك لو ذبح المُتمتِّع والقارن شاة يوم النَّحر أجزأه عن دم المُتعة، وعن الأضحية.اهـ
تنبيه مهم جدًا:
قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى ورسائل سماحته” (6 / 159):
ثُمَّ نَعرِف أنَّه لو اجتمع أضحية وعقيقة كَفَى واحدة.
صاحب البيت عازم على التضحية على نفسه، فيذبح هذه أضحية، وتدخل فيها العقيقة.
وفي كلام لبعضهم ما يُؤخذ مِنه:
“أنْ لابُدَّ مِن الاتحاد”: أنْ تكون الأضحية والعقيقة عن الصغير.
وفي كلام آخَرِين:
أنَّه لا يُشترط، إذا كان الأب سَيُضحِّي، فالأضحية عن الأب، والعقيقة عن الولد.
الحاصل: أنَّه إذا ذبح الأضحية عن أُضحية ونواها عن العقيقة كَفَى، وهذا مبسوط في “التُّحفة” المذكورة.اهـ
قلت:
وكون الأضحية والعقيقة لا بُدَّ أنْ تكون عن الصغير وحدَه، مُستقِلَّة بِه، هو ظاهر آثار التابعين، وظاهر كلام الإمام أحمد بن جنبل ــ رحمهم الله ــ.
جمْع:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.