تنبيه الصُّوام بأنَّ إخراج زكاة الفطر نقودًا لا يُجزئ ولا يجوز
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النَّبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد، أيُّها الفُضَلاء النُّبهاء ــ أكرمكم الله بالاستمساك بالسُّنة النَّبوية إلى الممات ــ:
فلقد شاع عند جُموع عديدة مِن عوام المسلمين ــ سدَّدهم الله وسلَّمهم ــ:
[ إخراج زكاة الفطر نقودًا ].
فيُقَوِّمُون مقدار ونوع الطعام المُخْرَج في زكاة الفطر بالنَّقد، ثم يُخرجون قيمته بعُملة بلدهم مِن دراهم أو دنانير أو ريالات أو جُنيهات أو دولارات أو غيرها مِن العُملات، ثم يُعطونها للفقراء والمساكين.
وهذا الفعل لا يجوز، ولا يُجزئ، عند أكثر العلماء ــ رحمهم الله تعالى ــ.
بل قال الفقيهان المالكيان القاضي عياض اليحصبي في “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (3/ 482)، وتاج الدين الفاكهاني في “رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام” (3/ 354) ــ رحمهما الله ــ:
ولم يُجِز عامة العلماء إخراج القيمة في ذلك، وأجازه أبو حنيفة.اهـ
وقال الفقيه عون الدين ابن هُبيرة الشيبانيّ الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإفصاح” (1/ 214):
واتفقوا على أنَّه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، إلا أبا حنيفة، فإنَّه قال: يجوز.اهـ
وقال الفقيهان الشافعيان أبو زكريا النَّوووي في “شرح صحيح مسلم” (7/ 60-61 ــ حديث رقم:) وعلاء الدين ابن العطَّار في “العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام” (2/ 834) ــ رحمهما الله ــ:
ولم يُجز عامة الفقهاء اخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة.اهـ
ويدُلُّ على صِحِّة هذا القول، وأنَّه الحق والصَّواب، أمور:
الأوَّل: ما أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984)، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ )).
وفي لفظ آخر للبخاري (1507)، ومسلم (984): (( أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ )).
ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فَرَض وأَمَر أن تُخْرَج زكاة الفطر مِن الطعام، وليس قيمتها مِن النقود، فمَن خالفه فأخرج نقودًا فقد ترَك ما أَمَر بَه صلى الله عليه وسلم، وفَرَض.
الثاني: ما أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827)، وغيرهما، عن عبد الله بن العباس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ )).
وقد نصَّ على ثبوت هذا الحديث:
الحاكم، ومُوفَّق الدين ابن قدامة، والنَّووي، والذَّهبي، وابن المُلقِّن، والألباني، وابن باز، وغيرهم.
ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَض زكاة الفطرة طُعمة للمساكين، والطُعمة تكون بما يُطْعَم ويُؤكل، وإخراجها نقودًا يُعطِّل ما فرضه صلى الله عليه وسلم، إذ الفقير قد يصرفها في طعام، أو مكالمة هاتف، أو دُخان، أو لباس، أو لعبة، أو دخول سينماء، أو غير ذلك.
الثالث: أنَّ إخراج الطعام هو المعمول بِه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، ومَن في زمنهم وبَعد زمنهم مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
ولا يُعلم عن أحد منهم ــ رضي الله عنهم ــ أنه عَدَل عن الطعام فأخرج بدله نقودًا.
وقد أخرج البخاري (1506)، ومسلم (985)، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنَّه قال: (( كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ )).
وفي لفظ لمسلم: (( كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ: فَرَأَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ )).
وفِعلُ وتتابع الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ على إخراجها مِن الطعام مع وجود الدراهم والدنانير، ومعرفتهم باحتياج الفقراء الشديد إلى النقود، دليل على أنَّها لا تُخْرَج إلا مِن الطعام.
ولا ريب عند كل مؤمن بالله واليوم الآخِر أنّ خير الهَدي هَدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ.
الرابع: ما قاله القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي ــ رحمه الله ــ- في كتابه “الإشراف على نُكت مسائل الخلاف” (1/ 391):
ولأنَّه ــ عليه السلام ــ فرَض زكاة الفطر صاعًا مِن تمر، أو صاعًا مِن شعير، أو صاعًا مِن زبيب، ففيه دليلان:
أحدهما: أنَّ التعيين يُفيد الانحتام.
والثاني: أنَّه نصَّ على مُسميات مختلفات، وأقوات متباينة، فلو كان الاعتبار بالقيمة لم يَكن لذلك معنى، ولكان يَكفي النص على واحد دون غيره، ولأنَّ إخراج القيمة تؤدي إلى إسقاط النصوص.اهـ
ويَقصد بالانحتام: الوجوب.
وقال الفقيه الشافعي أبو سليمان الخطابي البُستي ــ رحمه الله ــ في كتابه “معالم السُّنن” (2/ 51):
وفي الحديث دليل على أنَّ إخراج القيمة لا يجوز، وذلك لأنَّه ذَكر أشياء مختلفة القِيَم، فدَلَّ أنَّ المراد بها الأعيان، لا قيمتها.اهـ
الخامس: أنَّ زكاة الفطر مِن الشعائر الظاهرة في بلاد المسلمين عند ختام رمضان، تُرى في أسواقهم، وطرقاتهم، ويتسامعون بها، ويَراها الصغير والكبير، والذَّكر والأنثى، وإخراجها نقودًا يُفضي إلى خفائها، وجهل الناس بأحكامها، واستهانتهم بها.
السادس: أنَّ القائل بجواز إخراج زكاة الفطر نقودًا لا نصَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم معه يُؤيد قوله، بخلاف مَن قال: لا تُخرج إلا مِن الطعام، وأخرجها طعامًا، فعنده أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، تدُل على صحة قوله، وصواب فعله، وتُطمئن نفسه.
وفي الختام أقول لِمَن يُخرج زكاة الفطر نقودًا ــ فقَّهه الله بدينه وشرعه وقبِل عبادته ــ:
أوَّلًا ــ إنَّ زكاة الفطر عبادة واجبة بنص السُّنَّة النبوية، فلتخرجها بالطريقة التي توافق السُّنَّة، ونُصّ عليها فيها، وهي إخراجها طعامًا لا نقودًا، حتى تضمَن صواب وإجزاء فِعلك، وأنَّه مقبول عند ربِّك سبحانه.
ثانيًا ــ إنْ أخرَجت زكاة الفطر طعامًا فستخرجها باطمئنان وراحة نفس، لأنَّ معك نصوصًا شرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ــ رضي الله عنهم ــ، تُصَوِّب فِعلك، وأنَّه مُجزئ.
ثالثًا ــ اتفق الفقهاء ــ رحمهم الله ــ على أنّ مَن أخرج زكاة الفطر طعامًا فقد أجزأته، وبرئت ذِمَّته.
وأمَّا مَن أخرجها نقودًا فلا تُجزئه، ولم تَبرأ ذِمَّته عند أكثر العلماء.
وقال قِلَّة مِن الفقهاء: تُجزئه.
ولا نصَّ معهم، لا مِن السُّنَّة النبوية، ولا عن أحد مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
فهل تسلك المنصوص عليه في السُّنَّة النبوية، والمتفق بين العلماء على أنَّه لا خلاف في صوابه، فتضمَن الإجزاء، وتطمئن لإخراجك؟ أمْ تفعل المُخْتَلَف فيه، فلا تطمئن بعده لصحة عبادتك، وإجزاء فعلك، وبراءة ذمَّتك؟.
رابعًا ــ إنْ قالت نفسٌ:
“إنَّ إخراج النقود أنفع للفقراء”.
فَلْيُقَل لها:
إنَّ العمل بالشرع الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأنفع للنفس والفقير، وقد فُرِضت فيه زكاة الفطر طعامًا لا نقودًا.
والله ــ عزّ وجلّ ــ أعلم مِنَّا بالأنفع لعباده الفقراء، إذ يَعلم احتياجهم إلى النقود قبل خلْقِهم، وفي أيّ زمَن وجِدوا، ولم يَفرضها لهم إلا مِن الطعام.
وقد كان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ، في حاجة شديدة للنقود، والفقراء والمساكين بينهم وحولهم كُثر، ومع ذلك لم يُخرجوها لهم إلا مِن الطعام، ولم يُنقل عنهم إلا الطعام.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.