موعظة وتذكير وأحكام لأوَّل جمعة مِن شهر شوال
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ جامعِ الناسِ ليومٍ لا رَيبَ فيهِ، عالمِ ما يُسِرُّهُ العبدُ وما يُخفيِهِ، أحصَى عليهِ خطراتِ فِكرِهِ وكلماتِ فِيهِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، مُعلِّمُ الإيمانِ وداعِيهِ، وعلى أجلَّةِ الناسِ وهُم آلُ بيتِهِ وأصحابِهِ، وعلى كلِّ مَن حُمِدَتْ في الإسلامِ سِيرتُهُ ومساعِيه.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فاتقوا اللهَ ربَّكُم بالعملِ بما يُحبُّهُ ويَرضَاهُ، وسارِعوا إلى مغفرتِهِ وجنَّتِهِ بلزومِ أوامِرِهِ واجتنابِ نواهِيهِ، فالمؤمِنُ مَن يَرجو اللهَ ويَتقِيهِ، ولا تَتبِعوا خُطواتِ الشيطانِ فإنَّه يُضِلُ مَن اتَّبعَهُ ويُغوِيهِ، ويأمرُهُ بالفحشاءِ والمُنكرِ وإلى طريقِ الجحيمِ يَهدِيهِ، ولقد كنتُم تَرتقبونَ مَجِيءَ شهرِ رمضان، ولقد جاءَكُم وخَلَّفتُموهُ وراءَ ظهورِكُم، وهكذا كلُّ مُسْتَقبَلٍ سوفَ يَصلُ إليهِ العبدُ ثم يُخَلِّفُهُ وراءَهُ حتى يأتيَهُ الموت، ولقد أودعتُم رمضانَ ما شاءَ ربُّكُم أنْ تُودِعوهُ مِن الأعمالِ، فمَن كان مِنكُم قد أحسنَ العملَ فَلْيُبْشِرْ بالقبولِ والأجْرِ، فإنَّ اللهَ يَتقبلُ مِن المُتقينَ، وإنَّهُ سبحانَهُ لا يُضيعُ أجْرَ المُحسِنينَ، ومَن كانَ مِنكُم مُسيئًا شديدَ التقصيرِ فلْيَتُب إلى اللهِ خالقِهِ، فالأوبَةُ قبلَ الموتِ مقبولةٌ، واللهُ يُحبُ التوابينَ، ويَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ المؤمنِ، ومَن ركبَ ما تهواهُ نفسُهُ، فلم يَتُبْ إلى ربِّه توبةً نصوحًا، ولم يَنزجِرْ عن عصيانِهِ، واستمرَّ في غيِّهِ وتفريطِهِ، فقد قالَ ربُّه ــ جلَّ وعزَّ ــ مُبشرًا ومُرهِّبًا: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُبشِّرًا: قالَ اللهُ تعالى: (( يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ ))، وقالَ اللهُ سبحانَهُ آمِرًا: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
أيُّها الناس:
لَئِنِ انقضَى رمضانُ شهرُ المَغفرةِ والرَّحمةِ ومُضاعفةِ الأجورِ وتَصفِيدِ الشياطينِ بالأغلالِ، ورِقَّةِ القلوبِ، وخشوعِ الأنفُسِ، والإقبالِ على الطاعاتِ، وذهبَت أيَّامُ صيامِهِ وليالي قيامِهِ، فإنَّ زمَنَ العملِ لا يَنقضِي إلا بالموت.
فقد سَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: صيامَ سِتٍّ مِن شوالٍ بعدَ الانتهاءِ مِن صيامِ شهرِ رمضانَ، لِيَحصُلَ العبدُ على أجْرِ صيامِ سَنةِ كاملةٍ، فصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ))، ولا يَجبُ صيامُ هذهِ السِّتِّ مِن أوَّلِ الشهرِ، ولا مُتتابعةً، ومَن بادرَ إلى صيامِها أوَّلَ الشهرِ وتابَعها فهوَ أفضل، ومَن أخَّرَها أو فرَّقها فلا حرَجَ عليهِ، ويَبدأُ وقتُها مِن ثاني يومٍ في شهرِ شوال، ومَن صامَها قبلَ قضاءِ ما فاتَهُ مِن رمضان لم يَدخُل في ثوابِ هذا الحديثِ، لِظاهرِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) إذْ لا يَصْدُقُ إلا على مَن أتمَّ صيامَ جميعِ أيَّامِ رمضان.
وسَنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا: صيامَ يومِ الاثنينِ والخميسِ، وأيَّامِ البِيضِ، وأوصَى صلى الله عليه وسلم أصحابَه بصيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهر.
وسَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قيامَ الليلِ طِوالَ السَّنةِ، ورَغَّبَ فيه، فصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ))، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ )).
أيُّها الناس:
بادِروا أعمارَكُم وأيَّامَكُم بأعمالِكُم الصالحةِ قبلَ انقضائِها، وحقِّقوا أقوالَكُم بأفعالِكُم، إذ كَبُرَ مقتًا عندَ اللهِ أنْ تقولوا ما لا تفعلونَ، واغتنِموا ما بَقِيَ مِن أوقاتِ حياتِكُم بالإكثارِ مِن الطاعاتِ قبلَ المَماتِ، فإنَّ حقيقةَ العُمُرِ ما أمضَاهُ العبدُ بطاعةِ ربِّهِ ومولَاهُ، فبِها يَحْيَى حياةً طيبةً في الدُّنيا والآخِرةِ، وما سِوى ذلكَ فذاهِبٌ خسارًا، ومسئوولٌ عنهُ، ومُحاسَبٌ عليهِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }، وثبتَ أنّ السَّلفَ الصالحَ في أوَّلِ الإسلام كانوا يَتواعظونَ بهذهِ الأربعِ، يقولُها بعضُهم لِبعضٍ: (( اعْمَلْ فِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَاعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ لشُغْلِكَ، وَاعْمَلْ فِي صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَاعْمَلْ فِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))، فرَحِمَ اللهُ عبدًا اغتَنمَ أيَّامَ الشبابِ والقوةِ، وأوقاتَ الصِّحةِ والفراغ، فأسْرَعَ بالتوبةِ والإنابةِ قبْلَ طَيِّ الكتابِ، وأكثرَ مِن صالحِ الأعمالِ، وطَيِّبِ الأفعالِ، وجميلِ الأقوالِ، قبلَ حُلولِ الأجلِ، قبلَ أنْ يَتمنَّى ساعةً مِن ساعاتِ العُمُرِ لِيَستدَرِكَ ما قصَّرَ فيهِ أو أذْنَب، قبلَ أنْ تقولَ نفسٌ: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله }، قبلَ أنْ تقولَ حينَ تَرَى العذابَ: { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }، قبلَ أنْ تقولَ وهيَ تُعذَّبُ في النَّارِ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.{رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }، ولكنْ لا جَدوَى مِن ذلك، ولا نَفعَ حِينَها، فقد فاتَ زمَنُ الإمكانِ، ووَلَّى وقتُ الإمهالِ، وأُغلِقَ بابُ المُراجعةِ للنفسِ والمُحاسبةِ، ولم يَبقَ مع العبدِ إلا ما قدَّمَت يَداهُ، وما اكتسبَهُ في حياتِهِ مِن طاعةٍ أو عِصيانٍ، وجنَاهُ مِن إساءةٍ أو إحسانٍ، وحازَهُ مِن خيرٍ أو شَرٍ،{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.
فاللهمَّ: اغفرْ لنَا، وارحمنَا، وتُبْ علينا، إنَّكَ أنتَ التَّوابُ الرحيم.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادِهِ الذينَ اصطَفى.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فاتقوا اللهَ ربَّكُم وخالقَكُم بالمحافظةِ على ما افترَضَهُ عليكم مِن الطاعاتِ وأوجبَهُ، واستكثَروا مِن نوافلِ ومُستحبَّاتِ العباداتِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَالَ اللهُ تعالى: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ))، ولا تَزهَدوا في شيءٍ مِن القُرباتِ ولو صَغُرَت في أعيُنِكم، فإنَّها تَقيكُمُ النَّارَ ولَهبَها، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» )).
وإيَّاكُم أنْ تَستصغِروا مِن الذُّنوبِ شيئًا، وتَجتَرِئوا على فِعلِها، فإنَّ ذلكَ دليلُ ضِعفِ الإيمان، وطريقُ خسارةٍ وبوارٍ، وبابٌ للشيطانِ عليكُم، فقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ )).
واعلموا أنَّ القويّ في إيمانِهِ هو مَن داومَ على طاعةِ ربِّهِ ولو بقليلِ نَفْلٍ مُسْتَحَبٍّ مِن الصيام، أو قليلٍ مِن قيامِ الليلِ، أو قليلٍ مِن الصدقةِ، أو بِحِزبٍ يومِيٍّ يَسيرٍ مِن تلاوةِ القرآنِ وذِكرِ اللهِ واستغفارِهِ ودعائِهِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ )).
هذا وأسألُ اللهَ العظيمَ: أنْ يَجعلَني وإيَّاكُم مِمَّن صامَ رمضانَ وقامَهُ إيمانًا واحتسابًا فَغُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه، اللهمَّ ارحمْ موتانا وموتَى المسلمين، واجعلْهُم في قبورِهم مُنعَّمِين، وأكرمنَا وإيَّاهُم في الآخِرةِ برضوانِكَ والجنَّةِ والنظرِ إلى وجهكَ الكريمَ في الجِنَان، اللهم ارفعِ الضُّر عن المُتضرِّينَ مِن المسلمينَ في كلِّ مكان، وسَدِّد للخيرِ وُلاةَ أمورِ المسلمينَ ونُوَّابَهُم وعُمَّالَهم وجُندَهُم، واغفر لنَا ولِوالِدِينا وأهلينا أجمعين، إنَّك سميعُ الدُّعاءِ، واسعُ الفضلِ والعَطاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.