إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > القرآن و التفسير > مقال بعنوان: ” تثبيت نفْس الطالب بأنَّ التجويد مستحب لا واجب “.

مقال بعنوان: ” تثبيت نفْس الطالب بأنَّ التجويد مستحب لا واجب “.

  • 25 سبتمبر 2016
  • 6٬517
  • إدارة الموقع

تثبيت نفْس الطالب بأنَّ التجويد مُستحب لا واجب

الحمد لله الكريم الرحمن الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للإنس والجان، وأزكى العابدين مع حصول المغفرة له والرضوان، وعلى آله وأصحابه المستمسكين بهُدى الوحيين، والتابعين لهم بإحسان على مرِّ الأيام والشهور والسِّنين.

أمَّا بعد، فيا قارئ القرآن ــ رُزِقْت مِن الله حفظه والفقه بآياته والعمل بأحكامه ــ:

إنَّ بين يديك وناظريك وُرَيقَات عن:

 ” حكم التجويد “.

أيْ: تجويد كتاب الله القرآن عند تلاوته في الصلاة أو خارجها على حسب القواعد المفصَّلة في كتب التجويد.

فما كان فيها مِن صواب وفائدة فبفضل الله تعالى حصلت، وله المِّنة وحده، وما كان مِن زَلل وتقصير فحسبي أنّي لم أتقصده، وأسأل الله تعالى أنْ ينفع به المستفيد، ويزيد به مِن فقهه، وأنْ يتقبَّله مِنِّي بقبول حَسن، إنَّه جواد كريم.

وسوف يكون الكلام عن هذا الموضوع في سِتِّ وقفات:

الوقفة الأولى / عن الإجماع المنقول على استحباب ترتيل القرآن عند تلاوته.

أولًا: قال الإمام أبو محمد موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المغني” (14/  168):

واتفق العلماء على أنَّه تُستحب قراءة القرآن بالتحزِّين والترتيل والتحسِين.اهـ

ثانيًا: قال فقيه الشافعية ومحدِّثهم أبو زكريا النووي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التبيان في آداب حملة القرآن” (ص:87-88):

وينبغي أنْ يرتِّل قراءته، وقد اتفق العلماء ــ رضي الله عنهم ــ على استحباب الترتيل، قال الله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }.اهـ

وقال أيضًا (ص:89):

قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبُر ولغيره، قالوا: يستحب الترتيل للعجمي الذي لا يفهم معناه، لأنَّ ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب.اهـ

وقال في كتابه “المجموع شرح المهذب” (3 / 396):

يستحب ترتيل القراءة وتدبرها، وهذا مُجمع عليه، قال الله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ ترتيلًا }.اهـ

وقال أيضًا (2 / 165):

ويسَّن ترتيل القراءة، قال الله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }، وثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مرتَّلة، واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، ويُسمَّى الهَذّ، قالوا: وقراءة جزء بترتيل أفضل مِن قراءة جزأين في قدر ذلك الزمن بلا ترتيل، قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبر، ولأنَّه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرًا في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه.اهـ

ثالثًا: قال الفقيه الحنبلي أبو الفرج شمس الدين ابن قدامة ــ رحمه الله ــ في “الشرح الكبير على متن المقنع” (12 / 57):

واتفق أهل العلم على أنَّه تستحب قراءة القرآن بالتحزِّين والترتيل والتحسِين.اهـ

رابعًا: قال الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان ــ رحمه الله ــ في كتابه “الأسئلة والأجوبة الفقهية” (2 / 196):

وقد اتفق العلماء ــ رضي الله عنهم ــ على استحباب الترتيل، قال الله تعالى: { وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا }.اهـ

خامسًا: قال العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر ــ سلمه الله ــ في “شرح سنن أبي داود”:

سَبق أنْ ذَكرت في مناسبات متعددة كلام الحافظ ابن حجر الذي ذكره عند شرح حديث ابن مسعود: (( هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ )) في “صحيح البخاري”, قال:

لا خلاف بين أهل العلم ــ أو عبارة نحوها ــ أنَّ القراءة بالتجويد أحسن وأفضل، وأنَّه يجوز القراءة بدونه.اهـ

قلت:

والكتب المصنَّفة في علم التجويد تكاد تكون مُطبقة على الاحتجاج  بآية سورة المزمِّل: { وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا } على وجوب التجويد.

وينقلون عند الاحتجاج بها عن علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال:

(( الترتيل: معرفة الوقوف، وتجويد الحروف )).

والعلماء مجمعون على أنَّ الأمر في الآية أمر استحباب لا وجوب.

الوقفة الثانية / عن نُقول وكلام جمْع مِن الفقهاء في عدم وجوب التجويد.

أولًا: العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ــ رحمه الله ــ.

حيث قال تلميذه العلامة العثيمين ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع فتاوى ورسائل فضيلته” (26/ 207):

وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ــ رحمه الله ــ في جواب له أنَّ التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب.اهـ

ثانيًا: قال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (26/ 26-27) مجيبًا على سؤال:

أحكام التجويد مستحبة وليست بواجبة، وإذا قرأ الإنسان القرآن بلغة العرب كفى، والحمد لله، لكن يشرع له أنْ يقرأه على مَن هو أعلم مِنه حتى يُتقنه جيدًا، وإذا قرأه بالتجويد على إنسان يِعرف ذلك، كان ذلك مِن باب الكمالات, ومِن باب الفضل، ومِن باب العناية بإتقان القرآن، وأنْ يقرأه على الوجه المرْضِيِّ، وإلا فليس بشرط، وليس بواجب، ولا دليل على ذلك، إذا قرأه بلغة العرب، وأقامه على لغة العرب، ولو كان ما أدغم أو ما فخَّم الراء ونحوها، أو رقَّقَّ كذا، أو أظهر في محل الإدغام، أو أدغم في محل الإظهار ما يضره ذلك.اهـ

وقال أيضًا كما في كتاب “فتاوى نور على الدرب”(11/ 480) مجيبًا على سائل:

إذا كنت تقيم القراءة، ولو كنت غير مجود، فالتجويد ليس بواجب، بل مستحب، إذا كنت تقيم القراءة، تقيم الحروف، تخرجها فلا بأس بذلك، ولو كنت لم تقرأ بالتجويد، ما دمت تقرأ الآيات باللغة العربية قراءة واضحة، والحروف واضحة فلا بأس عليك.اهـ

ثالثًا: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع فتاوى ورسائل فضيلته” (26/ 206-207):

لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فُصِّلت بكتب التجويد، وإنَّما أرى أنَّها مِن باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الإلزام، وقد ثبت في “صحيح البخاري” عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنَّه سُئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (( كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ )).

والمَدُّ هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمُّده، والنص عليه هنا يدل على أنَّه فوق الطبيعي.

ولو قيل بأنَّ العلم بأحكام التجويد المفصَّلة في كتب التجويد واجب، للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم.

ولِيُعلم أنَّ القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذِّمة أمام الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به مِن كتاب الله تعالى، أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ــ رحمه الله ــ في جواب له أنَّ التجويد حسب القواعد المفصَّلة في كتب التجويد غير واجب.

وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ حول حكم التجويد قال فيه (16/ 50 ــ من “مجموع ابن قاسم ــ رحمه الله ــ للفتاوى”):

“ولا يجعل هِمته فيما حُجب به أكثر الناس مِن العلوم عن حقائق القرآن، إمَّا بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمدِّ الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك، فإنَّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب مِن كلامه، وكذلك شغل النطق بـ { أَأَنْذَرْتَهُمْ }، وضَمّ الميم مِن { عَلَيْهِمْ } ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضَمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النَّغم، وتحسين الصوت”.اهـ

وقال أيضًا في “شرح كتاب رياض الصالحين” (4/ 634):

أمَّا التجويد المصطلح عليه فليس بواجب، لكنه مِن كمال تحسين الصوت، فالواجب ألا تُسقط حرفًا مِن الحروف، ولا شَدَّة مِن الشَّدَّات، وأمَّا قواعد التجويد المعروفة فهي مِن باب التحسين والتكميل، وليست مِن باب الواجبات، ولهذا يُضَعَّف القول بأنَّ التجويد واجب، وأنَّ مَن لم يجوِّد القرآن آثم، فإنَّ هذا قول ضعيف جدًا، بل يُقال: القرآن أَمْرُه ولله الحمد بيِّن واضح، لا تُسقط حرفًا مِن حروفه، وأمَّا مراعاة قواعد التجويد فليست بواجبة، لكنها مِن باب تحسين الصوت بالقرآن.اهـ

وقال أيضًا كما في ” فتاوى نور على الدرب” (2/ 157):

وأمَّا التجويد فليس بواجب، التجويد تحسين للفظ فقط، وتحسين اللفظ بالقرآن لا شك أنَّه خير، وأنَّه أتَمّ في حُسن القراءة، لكن الوجوب بحيث نقول: مَن لم يقرأ القرآن بالتجويد فهو آثم، قول لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.اهـ

وقال أيضًا كما في “فتاوى نور على الدرب” (2/ 158):

القراءة بالتجويد ليست واجبة، وإنَّما هي سُنَّة لتحسين الصوت بالقرآن، لأنَّه ينبغي على الإنسان أنْ يُحسِّن صوته بتلاوة كتاب الله، ومِن التحسين التجويد، وأمَّا كونه واجبًا فلا، إذا كان الإنسان يقيم الحركات: يرفع المضموم، ويفتح المنصوب، ويكسر المجرور، ويسكِّن الساكن، فليس عليه إثم في ذلك.اهـ

رابعًا: قال العلامة عبد الرزاق عفيفي ــ رحمه الله ــ كما في كتاب “فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي” (ص:614-615) حين سُئل عن حكم التجويد:

المطلوب هو التجويد العملي للقرآن، وتلاوة صحيحة، ولو بالتقليد والمحاكاة، وهذا الذي كان موجودًا عند الصحابة، أمَّا القواعد التي وضِعت فيما بعد لضبط التلاوة فتعلُّمها فرض كفاية في حق الأمَّة كلها، لا بد أنْ يكون فيهم مَن يتعلَّمها لكي يُعلِّمها، وهي مستحبة لِمَن بعدهم ممَّن قد سقط عنهم الفرض الكفائي.اهـ

خامسًا: قال العلامة حمود بن عبد الله التويجري ــ رحمه الله ــ في كتابه “إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة” (2/ 122- 124) تحت “باب ما جاء في الذين يتكلفون في قراءة التجويد” وبعد أنْ ذكر أربعة أحاديث نبوية:

وفي هذه الأحاديث فوائد:

إحداها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب القراءة السَّهلة.

الثانية: أنَّه كان يأمر أصحابه أنْ يقرأ كل مِنهم بما تيسَّر عليه وسهُل على لسانه.

الثالثة: ثناؤه عليهم بعدم التكلف في القراءة.

الرابعة: أنَّه لم يكن يُعلِّمهم التجويد ومخارج الحروف، وكذلك أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ لم يُنقل عن أحد مِنهم أنَّه كان يُعلِّم في التجويد ومخارج الحروف، ولو كان خيرًا لسبقوا إليه، ومِن المعلوم ما فتح عليهم مِن أمصار العجم مِن فُرسٍ ورُوم وبَربر وغيرهم، وكانوا يعلمونهم القرآن بما يَسهل على ألسنتهم، ولم يُنقل عنهم أنَّهم كانوا يعلمونهم مخارج الحروف، ولو كان التجويد لازماً ما أهملوا تعلمه وتعليمه.

الخامسة: ذمّ المتكلفين في القراءة، المتعمِّقين في إخراج الحروف.

السادسة: الرَّد على مِن زعم أنَّ قراءة القرآن لا تجوز بغير التجويد، أو أنَّ تَرْك التجويد يُخِل بالصلاة، وقد أخبرني بعض مَن أمَّ في المسجد النَّبوي أنَّ جماعة مِن المتكلِّفين أنكروا عليه إذ لم يقرأ في الصلاة بالتجويد، وما علم أولئك المتكلفون الجاهلون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الأعرابي والعجمي والأحمر والأبيض والأسود على قراءتهم، وقال لهم: (( كُلٌّ حَسَن ))، وأنَّه صلى الله عليه وسلم ذمَّ المتكلِّفين الذين يُقيمونه كما يُقام القدَح والسَّهم ويُثقِّفونه ويتنطعون في قراءته كما هو الغالب على كثير مِن أهل التجويد في هذه الأزمان.اهـ

سادسًا: قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي ــ رحمه الله ــ كما في موقعه على الشبكة العنكبوتية ــ الإنترنت ــ حين سُئل عن قول بعض مَن كتب في علم التجويد أنَّه واجب:

الصحيح أنَّه ليس بواجب، { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } معناه: بيِّنه تبيينًا، لا تُهَذْرِم هَذْرَمَة، وتُدمج الحروف في بعض.

أمَّا قول الجزري:

والأخذ بالتجويد حتمٌ لازم … مَن لم يُجوِّد القرآن آثم

لأنَّه به الإله أنزلا … وهكذا مِنه إلينا وصلا

فهذا ليس بصحيح، بل في الصحيحين عن عائشة ــ رضي الله تعالى عنها ــ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: (( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ )).

هذا مِن حيث الوجوب.

أمَّا الحث على تحسين الصوت فأمر مطلوب، ففي “السنن” عن البراء بن عازب ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ )).

وفي “السنن” عن سعد بن أبي وقاص ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا )).

أي: يُحسِّن صوته بالقرآن.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ )).

فتحسين الصوت أمر مطلوب على القواعد العربية.

نعم، الناس كما سمعتم بين إفراط وتفريط، مِن الناس مَن لا يرفع رأسًا بتحسين الصوت بالقرآن، ومِن الناس مَن يغلو كعبد الباسط.

فالقصد أنَّ التنطع في التجويد مذموم، وعدم الالتفات للتجويد يعتبر تفريطًا، فينبغي أنْ تَحضر عند مَن يعلِّم التجويد، وتَستفيد منه، وتحرِص على تعلُّم التجويد.اهـ

سابعًا: قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي ــ سلَّمه الله ــ حين سألته في بيته بمكة عن حكم التجويد:

هو مستحسن وليس بواجب.اهـ

ثامنًا: قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان ــ سلَّمه الله ــ كما في فُتيا له موجودة في “اليوتيوب” بصوته:

إنْ حصل إتقان القراءة بالتجويد فهو حَسن، وإنْ لم يحصل فلا مانع، ويكفي أنْ يَضبطه مِن الناحية الإعرابية.اهـ

وقال أيضًا في فُتيا ثانية موجودة بصوته في “اليوتيوب”:

أمَّا التجويد بمعنى الإدغام والإقلاب والغُنَّة والمدود فهذه تحسينيات، إنْ استعملها مِن غير مبالغة فهذا حسن.اهـ

وقال أيضًا في فُتيا ثالثة موجودة بصوته في “اليوتيوب”:

أمَّا مخالفة قواعد التجويد فهذه تكميلية ما تضر، إذا خالفها ما تضر، المطلوب ضبطها نحويًا بلغة القرآن التي نزل بها، بأنْ يرفع المرفوع، ويخفِض المجرور، وينصِب المنصوب، ويجزِم المجزوم، هذا هو المطلوب، هذا هو التجويد المطلوب، وأمَّا التجويد الذي هو الإدغام والغُنَّة والمدود، فهذه تكميلية، إنْ حصلت مِن غير مبالغة فلا بأس.اهـ

تاسعًا: قال العلامة عبد المحسن بن حمد العباد ــ سلَّمه الله ــ في “شرح سنن أبي داود”:

تعلم التجويد مِن الأمور المستحبة, فكون الإنسان يقرأ قراءة مجودة فهذا مِن الأمور المستحبة.اهـ

عاشرًا: قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية كما في “الفتاوى” (13/ 43 رقم:18676) في معرض ذكرها لآداب تلاوة القرآن:

يُستحب أنْ يرتِّل القرآن بصوت حسن مع تبيين الحروف والحركات والعناية بأحكام التجويد حسب قدرته.اهـ

ووقع على هذه الفتوى:

عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعبد العزيز آل الشيخ، وصالح الفوزان، وعبد الله بن غديان، وبكر أبو زيد.

الوقفة الثالثة / عن الإجابة عن بعض ما اسْتُدِلَّ به على وجوب تعلُّم أحكام التجويد والقراءة به.

لعَلَّ أقوى وأشهر الحُجج التي تُذكّر عند مَن يقول بوجوب التجويد مِن المتأخِّرين ــ فيما وقفت عليه في عامة كتبهم ــ حُجَّتان:

الحُجَّة الأولى:

قول الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في أوائل سورة المزَّمل: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }.

وقالوا في بيان وجه الاحتجاج مِن الآية:

هذا أمر بالترتيل، والأمر يقتضي الوجوب، والترتيل هو: تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف، وهو تفسير علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أحَد الخلفاء الراشدين الذين أُمِرنا باتِّباع سُنَّتهم وسبيلهم.

ويُجاب عن استدلالهم هذا بما يأتي:

أولًا ــ أنَّ هذا الأمر ليس أمر وجوب بإجماع أهل العلم ــ رحمهم الله ــ.

وقد تقدَّم في الوقفة الأولى نقل الإجماع، مع قائله، ومصدره، على:

أنَّ ترتيل القرآن مُستحب وليس بواجب، وأنَّ الأمر في الآية أمر نَدْب لا وجوب.

وقد نقله:

1 ــ الإمام موفَّق الدين ابن قدامة المقدسي ــ رحمه الله ــ.

2 ــ العلامة أبو زكريا مُحيي الدين النَّووي ــ رحمه الله ــ.

3 ــ الفقيه أبو الفرج شمس الدين ابن قدامة ــ رحمه الله ــ.

4 ــ الشيخ عبد العزيز السَّلمان ــ رحمه الله ــ.

ثانيًا ــ أنَّ المراد بالترتيل عند أهل اللغة والتفسير والحديث هو:

الترَسُّل والتمهُّل عند القراءة بحيث تظهر الحروف وتُفهم ولا تتداخل في بعض.

وهذا المعنى هو المنقول عن السَّلف الصالح كابن عباس، ومجاهد بن جبر، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة، وزيد بن أسلم، وغيرهم.

1 ــ وقد قال عبد الرزاق الصنعاني ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (1640):

أخبرني ابن جريج، قال: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه، قال لي:

(( التَّرْتِيلُ تَبْيِينُهُ حَتَّى تُفْهِمَهُ )).

وإسناده صحيح.

2 ــ وقال الإمام ابن جرير الطبري ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (23/ 363):

حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:

(( { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فَقَالَ: بَعْضُهُ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ )).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في  كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (9/ 89):

فعند الطبري بسند صحيح عن مجاهد ….اهـ

3 ــ وقال عالم النحو واللغة أبو إسحاق الزجاج ــ رحمه الله ــ في كتابه “معاني القرآن وإعرابه” (5/ 239-240):

ومعنى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } بيِّنه تبيينًا، والتبيِّين لا يتِم بأنْ يَعجل في القرآن، إنَّما يتِم بأنْ تبِين جميع الحروف وتُوفَّى حقَّها في الإشباع.اهـ

4 ــ وقال الفقيه ابن الهائم ــ رحمه الله ــ في كتابه “التبيان في تفسير غريب القرآن” (1/ 325)

{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ } التّرتيل في القراءة: التَّبيين لها كأنه يَفصِل بين الحرف والحرف، ومنه قيل: ثغر رتل، ورتل: إذا كان مفلَّجًا لم يلصق بعض الأسنان على بعض، ولا يركب بعضها بعضًا.اهـ

 5 ــ وقال المفسِّر النّحوي أبو جعفر النَّحَّاس ــ رحمه الله ــ في كتابه “إعراب القرآن” (5/ 38):

{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }.

حقيقته في كلام العرب: تلبّث في قراءته، وافصل الحرف مِن الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فيدخل بعض الحروف في بعض.اهـ

6 ــ وقال المفسِّر النّحوي يحيى بن زياد بن منظور الفرَّاء ــ رحمه الله ــ في كتابه “معاني القرآن” (ص:196-197):

وقوله ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } يقول: اقرأه على هِينتك ترسلًا.اهـ

7 ــ وقال الحافظ ابن جرير الطبري ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (23/ 680):

وقوله: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } يقول ــ جلَّ وعزَّ ــ:

وبيِّن القرآن إذا قرأته تبيينًا، وترسَّل فيه ترسُّلًا.اهـ

8 ــ وقال الحافظ أبو عمرو الدَّاني ــ رحمه الله ــ في كتابه “التحديد في الإتقان والتجويد” (ص: 71-72):

وقال الله تعالى مؤدِّبًا لنبيِّه وحاثًّا لأمَّته على الاقتداء به: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }، أي: تلبَّث في قراءته، وافصل الحرف مِن الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض.اهـ

9 ــ وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ النَّمري المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (2/ 181):

والترتيل: التمهُّل والترسل الذي يقع مِنه التدبُر.اهـ

10 ــ وقال الحافظ ابن كثير الدمشقي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (8/ 205):

وقوله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أي: اقرأه على تمهُّل فإنَّه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبره.اهـ

11 ــ وقال الشيخ ابن باديس الجزائري ــ رحمه الله ــ في كتابه “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير” (ص: 178):

وترتيل القرآن في التلاوة هو:

إلقاء حروفه حرفًا حرفًا، وكلماته كلمة كلمة، وآياته آية آية، على تؤدة ومَهل، حتى يتبيَّن للقارئ وللسامع، ولا يخفى عليه شيء منه.اهـ

ثالثًا ــ أنَّ قول علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ على كثرة ذِكْر المصنِّفين في علم التجويد له في كتبهم، واحتجاجهم به، لا يكاد يُذكر ويُعرف في غالب إنْ لم يكن عامة كتب التفسير المعتمدة عند تفسير هذه الآية لا مسندًا ولا غير مسند، وإنَّما يُذكر في كتب التجويد، وبدون إسناد يُعرف به صحته مِن عدمها.

وأقدم مَن وقفت على ذكره له هو أبو القاسم ابن جبارة المغربي ــ رحمه الله ــ، المتوفى سنة (465)، في كتابه “الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها” (ص: 93).

ومع ذلك فعامة أو أكثر مَن كتب في التجويد لا يَعزونه إليه، بل إلى كتب مُتَأخِّره.

الحُجَّة الثانية:

ما أخرجه سعيد بن منصور ــ رحمه الله ــ في “سننه” (1023) فقال:

نا شهاب بن خِراش، عن موسى بن يزيد الكِندي، قال:

(( كَانَ ابْنُ مَسْعْودٍ يُقْرِئ رجلاً، فقرأ: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } مُرْسَلةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ أَقْرَأكَها يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } فمدَّها )).

وأخرجه مِن طريقه الطبراني ــ رحمه الله ــ في “المعجم الكبير” ( 8677).

وقالوا في بيان وجه احتجاجهم بهذا الأثر:

أنكر ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ على الرجل أنْ يقرأ كلمة: “الفقراء” بالقصر، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه إياها بالمدّ.

وهذا يدل على وجوب التجويد.

وقد أُجِيب عن هذا الأثر بأجوبة:

الأوَّل: أنَّه ضعيف الإسناد.

ففي إسناده موسى بن يزيد الكِندي، وهو لا يُعرف.

حتى قال الإمام الألباني ــ رحمه الله ــ في كتابه “سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء مِن فقهها وفوائدها” (2237):

وهذا إسناد رجاله موثقون غير موسى بن يزيد الكِندي، فإنِّي لم أعرفه، ولا ذَكَره الحافظ المِزي في شيوخ ابن خِراش في “التهذيب”.اهـ

بل وقد ذَكر جَمع مِن المعاصرين ممَّن أوجبوا التجويد في كتبهم أنَّهم لم يجدوا لموسى بن يزيد الكِندي ترجمة.

وأيضًا:

شهاب بن خِراش ــ رحمه الله ــ صدوق يخطئ، وكانت وفاته سنة (174هـ)، وهو مِن الطبقة السابعة، وابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ مات سنة (32 أو 33 هـ).

وعليه:

فرواية شهاب عن شيخ أدرك ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ، تحتاج إلى مزيد تأمُّل وبحث.

وقد أسنده الجزري ــ رحمه الله ــ في كتابه “النشر في القراءات العشر” (1 / 315)، وقال:

“مسعود بن يزيد الكِندي”.

ولم يَقل:

“موسى بن يزيد الكِندي”.

وبمثل الجزري ذَكَره:

1 ــ جلال الدين السيوطي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإتقان في علوم القرآن” (1/ 333).

2 ــ وأبو بكر الهيثمي ــ رحمه الله ــ في كتابه “مَجمع الزوائد ومَنبع الفوائد” (11596).

إلا أنَّ الموجود في المطبوع مِن “سنن سعيد بن منصور” و “المعجم الكبير” للطبراني:

“موسى بن يزيد الكِندي”.

وقال السيوطي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور” (4 / 221):

وأخرج سعيد بن منصور، والطبراني، وابن مردويه، عن موسى بن يزيد الكِندي…اهـ

ولم أجد في كتب التراجم ترجمة لأحد باسم مسعود بن يزيد الكندي.

وغاية ما وجدته هو قول الحافظ ابن حبان البستي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الثقات” (5619):

مسعود بن يزيد يَروي عن عمر بن الخطاب، رَوى عنه محمد بن الفضل.اهـ

وهناك موسى بن يزيد بن مُوهب، روى عن أبي أُمَامة ــ رضي الله عنه ــ، ولم يوثقه إلا ابن حبان، حيث قال في كتابه “الثقات” (5427):

موسى بن مُرَّة بن مُوهب الأملوكي، كنيته أبو عبد الرحمن، مِن الشام، يَروي عن أبي أُمَامة الباهلي، رَوى عنه معاوية بن صالح، وهو الذي يقال له: موسى بن يزيد بن مُوهب.اهـ

ولم أجد في كتب التراجم عند ترجمة شهاب بن خِراش أنَّه روى عن أحد مِن أصحاب هذه الأسماء الثلاثة.

الثاني: أنَّ قول ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ هذا لا يَرقى لأنْ يكون إنكارًا لقراءة القصر، وأنَّها لا تجوز، وإيجابًا للقراءة بالمدّ، ناهيك عن إيجابه لغير المدِّ مِن أحكام التجويد.

وغاية ما فيه هو:

بيان ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ لتلميذه حين قرأ بالقصر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه إياها بالمدِّ لا القصر، ومِن المعلوم عند الجميع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقرأ ابن مسعود وحدَه.

الثالث: أنَّ ما قاله ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ حكاية فِعل، والفعل المجرَّد لا يدل على الوجوب.

الرابع: أنَّ هذا الأثر ليس فيه الكلام عن جميع مسائل التجويد، بل فيه مَدّ كلمة واحدة فقط، وهي: { لِلْفُقَرَاءِ }.

وقد نصَّ غير واحد مِن أهل العلم والفقه أنَّه لا يوجد دليل يدل على وجوب التجويد:

1 ــ فقال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (26/ 26) عن التجويد:

وإلا فليس بشرط، ليس بواجب، لا دليل على ذلك.اهـ

2 ــ وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (2/ 157):

لكن الوجوب بحيث نقول:

مَن لم يقرأ القرآن بالتجويد فهو آثم، قول لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.اهـ

الوقفة الرابعة / عن الإشارة إلى بعض النصوص التي اسْتُدِلَّ بها على عدم وجوب التجويد.

أولًا ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ )).

وقد أخرجه البخاري (4937)، ومسلم (798) في “صحيحيهما”، واللفظ لمسلم.

وقد اسْتَدَلَّ به غير واحد من العلماء.

1 ــ فقال الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (26/ 22-23 – رقم:4):

التجويد مستحب لمن استطاع ذلك، وتيسَّر له ذلك، لأنَّه يعطي الحروف حقها، ولأنَّه يُحسِّن الصوت بالقراءة، فإذا تيسَّر ذلك فهو مطلوب، وإنْ لم يتيسَّر فلا حرج في ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح: (( الْمَاهِرُ فِي الْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، يَتَتَعْتَعُ فِيهِ، لَهُ أَجْرَانِ )).اهـ

2 ــ وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي ــ رحمه الله ــ كما في موقعه على الشبكة العنكبوتية ــ الإنترنت ــ حين سُئل عن قول بعض مَن كتب في علم التجويد أنَّه واجب:

أمَّا قول الجزري:

والأخذُ بالتجويدِ حتمٌ لازمُ … مَن لم يُجودِ القرآنَ آثمُ

لأنهُ بهِ الإلهُ أنزلا … وهكذا منهُ إلينا وصلا

فهذا ليس بصحيح، بل في الصحيحين عن عائشة ــ رضي الله تعالى عنها ــ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: (( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ )).

هذا مِن حيث الوجوب.اهـ

قلت:

وهذا الحديث فيه بيان حال مَن يقرأ القرآن مِن الناس، وأنَّ مِنهم الماهر في قراءته، وهذا بسبب حرصه على تعلُّمِه وإتقانه، ومِنهم المُتعتِع، وهذا ليس في الحرص كالماهر، والتَّعتعة في الغالب تكون بسبب مِن القارئ، حيث لم يحرص ويجتهد في التعلُّم.

ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:

أنَّ التَّعتعة في قراءة القرآن لا بُدَّ أنْ يصاحبها إخلال بأحكام التجويد المصطلح عليها في القرون المتأخرة، ومع ذلك لم يُذم القارئ بها، بل رُغِّب في الاستمرار، بأنْ جُعِل له أجران، أجرٌ على القراءة، وأجرٌ على تعتعته في تلاوته ومشقته، وسبب التعتعة في الغالب تقصير القارئ في التعلُّم.

وممَّن استدل بهذا الحديث أيضًا على عدم وجوب التجويد:

1 ــ العلامة ربيع بن هادي المدخلي ــ سلمه الله ــ.

2 ــ وجاء أيضًا في إشارة للعلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ.

ثانيًاــ حديث قتادة ــ رحمه الله ــ قال:

(( سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «كَانَتْ مَدًّا» ، ثُمَّ قَرَأَ: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ )).

وقد أخرجه البخاري في “صحيحه” (5046)، وغيره.

وبوَّب عليه الإمام أبو داود ــ رحمه الله ــ في “سننه” (1465):

“باب: استحباب الترتيل في القراءة”.اهـ

والمَدُّ أحَد أحكام التجويد.

وقد استفدنا مِن تبويب الإمام الفقيه المُحدِّث أبو داود السجستاني ــ رحمه الله ــ على هذا الحديث أمرين:

أحدهما: أنَّ هذا المَدَّ مُستحب لا واجب.

والآخَر: أنَّ المدَّ مِن الترتيل المأمور به في القرآن، والترتيل مُجمع على استحبابه.

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع فتاوى ورسائل فضيلته” (26/ 206-207):

لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصِّلت بكتب التجويد، وإنَّما أرى أنَّها مِن باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير باب الإلزام، وقد ثبت في “صحيح البخاري” عن أنس ابن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنَّه سُئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (( كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }، يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ )).

والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمُّده، والنص عليه هنا يدل على أنَّه فوق الطبيعي.

ولو قيل بأنَّ العلم بأحكام التجويد المفصَّلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم.

ولِيُعلم أنَّ القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذِّمَّة أمام الله ــ عزَّ وجلَّ – في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به مِن كتاب الله تعالى، أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين.اهـ

ثالثًا ــ الآثار الواردة عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ في قراءة القرآن في ركعة.

1 ــ إذ صحَّ:

(( أَنَّ عُثْمَانَ ــ رضي الله عنه ــ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَيْلَةً فِي رَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا )).

أخرجه سعيد بن منصور في “سننه” (158)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” (8589 و 8591)، وابن سعد في “الطبقات” (3/ 75-76)، وابن شبَّة في “تاريخ المدينة” (4 / 1272)، وأبو عبيد في “فضائل القرآن” (ص:281)، وابن المبارك في “الزهد” (1275 -1276-1277)، وعبد الرزاق في “مصنفه” (5952)، وابن نصر المروزي كما في “فتح الباري” (2/ 482) لابن حجر العسقلاني، واللفظ له، والخلَّال في “السُّنَّة” (428)، والطبراني في “المعجم الكبير” (130 )، وأبو نُعيم في “الحلية” (1/ 57)، وفي “معرفة الصحابة” (275-276)، والبيهقي في “السُّنن الكبرى” (4782-4783)، وغيرهم مِن طرق عدة.

وقد صحَّح إسناد أحد طُرقه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وحسن أحد طرقه الحافظ ابن كثير، ونور الدين الهيثمي، وابن حجر العسقلاني ــ رحمهم الله ــ.

وقال الحافظ الذَّهبي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “سير أعلام النبلاء” (2/ 455):

وصحَّ مِن وجوه أنَّ عثمان قرأ القرآن كله في ركعة.اهـ

2 ــ وثبت عن ابن سِيرين ــ رحمه الله ــ:

(( أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ ــ رضي الله عنه ــ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ )).

أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (1277)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” (8588)، والبيهقي في “السُّنن الكبرى” (4787)، وابن سعد في “الطبقات” (335 – الجزء المتمم)، وابن حبان في “الثقات” (3/ 40 – ترجمه: 135)، وغيرهم.

وصحَّح إسناده الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ.

3 ــ وأخرج الطحاوي ــ رحمه الله ــ في “شرح معاني الآثار” (2053):

(( عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ )).

وفي إسناده يحيى الحِمَّاني، وهو مختلَف فيه.

ووجه الاستدلال مِن هذه الآثار:

أنَّه يصعب جدًا بل يتعذَّر قراءة القرآن كله على وفق أحكام التجويد المذكورة في كتب أهل هذا الفن في مثل هذا الوقت القصير.

وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما يَحِلّ ويَحْرُم، لاسيَّما وعثمان بن عفان وتميم الدَّاري وعبد الله بن الزبير ــ رضي الله عنهم ــ مِن فقهاء الصحابة وعلمائهم.

ولو كان التجويد واجبًا لَمَا فعلوا ذلك، ولأُنْكِر عليهم ذلك الفعل.

الوقفة الخامسة / عن الإجماع الذي يتناقله بعض أهل التجويد في كتبهم على وجوبه.

ذكر بعض الباحثين أنَّ أوَّل من وجِد له القول بوجوب التجويد هو شمس الدين ابن الجزري.

وابن الجزري ــ رحمه الله ــ مِن أهل القرون المتأخرة، فقد كانت وفاته في القرن التاسع الهجري، سنة: (833 هـ).

وقال محمد مكِّي نَصْر ــ وهو مِن المعاصرين ــ في كتابه “نهاية القول المفيد” (ص:10):

فقد اجتمعت الأمة المعصومة مِن الخطأ على وجوب التجويد مِن زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، ولم يَختلف فيه أحَد مِنهم.اهـ

وغالب مَن وقفت على نقلهم للإجماع ــ وهم كُثر جدًا ــ فهُم ينقلونه عن محمد مكِّي نَصْر هذا.

وبعضهم يَذكره مِن عند نفسه دون نِسبة لأحد أو عزوٍ لكتاب.

ثم وقفت على قول زين الدين أبي الفتح السَّنهوري ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجامع المفيد في صناعة التجويد” (ص:169):

قال ابن أبي الأحوص: أجمع العلماء على وجوب التجويد في التلاوة ترتيلًا كانت أو هذًّا، في الصلاة، وغيرها.اهـ

وابن أبي الأحوص هذا هو: 

أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص الأندلسي المعروف بابن النَّاظر ــ رحمه الله ــ المتوفى سنة (679 هـ)، صاحب كتاب “الترشيد في علم التجويد”.

وممَّا يُضعِف ويُبطِل ويَنقُض ما ذكره ابن أبي الأحوص ــ رحمه الله ــ مِن إجماع:

أولًا ــ ما ثبت عن جماعة مِن الصحابة والتابعين فمَن بعدهم مِن قراءة القرآن في مُدَّة يسيرة يَصعب بل يتعذَّر معها تطبيق أحكام التجويد على نحو ما ذكره أهل هذا الفن، كقراءته في ركعة واحدة، أو ليلة، وهم مِن أهل القرآن، ومِن أعلم الناس به، ومِن الفقهاء، بل هُم سادة العلماء.

حيث قال أبو عبيد ــ رحمه الله ــ في كتابه “فضائل القرآن” (ص: 181):

حدثنا هشيم، قال: أنا منصور، عن ابن سرين، قال: قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية، حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه:

(( إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يُحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن )).

وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فضائل القرآن”(ص:257) عقبه: 

هذا حسن.اهـ

وخرَّجه غير أبي عبيد ــ رحمه الله ــ.

وله طُرق عدَّة يصحُّ بها، وتُوبع فيه ابن سيرين ومَن دونه أيضًا.

وفي بعض الألفاظ:

(( أَنَّ عثمان كان يُحيي الليل فيختم القرآن في ركعة )).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (2/ 482):

ففي كتاب محمد بن نصر، وغيره، بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد:

(( أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَيْلَةً فِي رَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا )).اهـ

وقال أبو عبيد ــ رحمه الله ــ أيضًا في كتابه “فضائل القرآن” (ص: 182):

حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سليمان، عن ابن سيرين:

(( أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ )).

حدثنا حجاج، عن شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير أنَّه قال:

(( قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ فِي الْبَيْتِ )).

وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة:

(( أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ، طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى عِنْدَهُ، فَقَرَأَ الطُّوَلَ، ثُمَّ طَافَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى عِنْدَهُ، فَقَرَأَ بِالْمِئِينَ، ثُمَّ طَافَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ بِالْمَثَانِي، ثُمَّ طَافَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى عِنْدَهُ فَقَرَأَ بَقِيَّةَ الْقُرْآنِ )).

وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فضائل القرآن” (ص:258) عقب هذه الآثار الثلاثة:

وهذه كلها أسانيد صحيحة.اهـ

وقال أيضًا (ص:260):

وعن الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ أنَّه كان يختم في اليوم والليلة مِن شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة.

وعن أبي عبد الله البخاري صاحب “الصحيح” أنَّه كان يختم في الليلة ويومها مِن رمضان ختمة.اهـ

وقد خرَّج الآثار السالفة غير أبي عبيد ــ رحمه الله ــ.

وقال فقيه الشافعية ومحدِّثهم أبو زكريا النووي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التبيان في آداب حملة القرآن” (ص: 60):

وروى أبو داود بإسناده الصحيح: (( أنَّ مجاهدًا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء )).

وعن منصور، قال: (( كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة مِن رمضان )).

وعن إبراهيم بن سعد، قال: (( كان أبي يحتبي فما يَحِل حبوته حتى يختم القرآن )).

وأمَّا الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم، فمِن المتقدمين: عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، ــ رضي الله عنهم ــ ختمة في كل ركعة، في الكعبة.اهـ

قلت:

وأثر منصور، قد أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه” (8595) بسند حسن أو صحيح.

وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ النَّمري المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (2/ 382):

وقد كان عثمان وتميم الداري وعلقمة وغيرهم يقرؤون القرآن كله في ركعة، وكان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين وأكثر في ليلة.اهـ

ثانيًا ــ أنَّ النَّص المستَنَد عليه في وجوب التجويد في القراءة هو الأمر قول الله تعالى في سورة المُزَّمِّل:

{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }.

وهذا أمر استحباب لا وجوب باتفاق العلماء ــ رحمهم الله تعالى ــ.

وقد نقل الإجماع:

1 ــ الإمام موفَّق الدين ابن قدامة المقدسي ــ رحمه الله ــ.

2 ــ العلامة أبو زكريا مُحيي الدين النَّووي ــ رحمه الله ــ.

3 ــ الفقيه أبو الفرج شمس الدين ابن قدامة ــ رحمه الله ــ.

4 ــ الشيخ عبد العزيز السَّلمان ــ رحمه الله ــ.

وقد تقدمت نصوصهم في ذلك، مع المرجع، وجزئه، وصفحته.

ثالثًا: قول أبي جعفر الغرناطي المعروف بابن البَاذِش ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإقناع في القراءات السبع” (ص: 275):

اعلم أنَّ القرَّاء مجمعون على التزام التجويد، وهو إقامة مخارج الحروف وصفاتها، فأمَّا أسلوب القراءة، مِن حدْر وترتيل، بعد إحراز ما ذكرنا، فهم فيه متباينون غير مستوين.اهــ

الوقفة السادسة / عن التَّرغيب في القراءة بالتجويد الذي لا إفراط فيه ولا تكلُّف ولا تنطُّع ولا يُضعِف خشوع القارئ وحضور قلبه.

القول بعدم وجوب التجويد، وتقرير أنَّه الحق والصواب، لا يعني إهمال تعلُّمه، والقراءة به، بل تعلُّمه والتزامه في القراءة أمر جيد، بل مستحب، ولكن دون تكلُّف وتنطُّع وتقعُّر وتمطيط يُخرج القرآن إلى حدود الغناء، وإيقاعاته وأوزانه، أو يًحجب حضور القلب، ويُضعف خشوعه وتدبره.

ودونكم كلام بعض أهل العلم حول ذلك:

أولًا: قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الأم” (2/ 250):

وأقلُّ الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وكلما زاد على أقلِّ الإبانة كان أحب إليَّ ما لم يبلغ أنْ تكون الزيادة فيها تمطيطًا.اهـ

ثانيًا: قال أبو جعفر الغرناطي المعروف بابن البَاذِش ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإقناع في القراءات السبع” (ص: 275):

اعلم أنَّ القرَّاء مجمعون على التزام التجويد، وهو إقامة مخارج الحروف وصفاتها، فأمَّا أسلوب القراءة، مِن حدْر وترتيل، بعد إحراز ما ذكرنا، فهم فيه متباينون غير مستوين.اهــ

ثالثًا: قال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المغني” (2/ 154-155):

والمستحب أنْ يأتي بها مُرتَّلة مُعرَبة يقف فيها عند كل آية، ويمكِّن حروف المدّ واللِّين، ما لم يُخرجه ذلك إلى التمطيط لقول الله تعالى : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }.اهـ

وقال أيضًا (14/ 167):

فأمَّا القراءة بالتلحين فينظر فيه، فإنْ لم يُفرِط في التمطيط والمدّ وإشباع الحركات فلا بأس.اهـ

رابعًا: وفي “تصحيح الفروع” (11/ 349 ــ مع كتاب “الفروع”) للمرداوي الحنبلي ــ رحمه الله ــ:

وقال القاضي: وإنْ أسرف في المدّ والتمطيط وإشباع الحركات كُرِه، ومِن أصحابنا مَن يحرِّمه.اهـ

خامسًا: قال الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “زغل العلم” (ص:25-27):

فالقُرَّاء المجوِّدة:

فيهم تنطُّع وتحرير زائد يؤدي إلى أنْ المجوِّد القارىء يبقى مصروف الهمِّة إلى مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها، بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة لله، ويخلِّيه قويَّ النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر اليهم بعين المقت، وأنَّ المسلمين يلحنون، وبأنَّ القُرَّاء لا يحفظون إلا شواذ القراءة، فليت شعري أنت ماذا عرفت؟ وما علمك؟، وأمَّا عملك فغير صالح، وأمَّا تلاوتك فثقيلة عرِّية عن الخشية والحزن والخوف، فالله يوفقك، ويبصرك رشدك، ويوقظك مِن رقدة الجهل والرياء.

وضدهم قُرَّاء النَّغم والتمطيط، وهؤلاء في الجملة مَن قرأ مِنهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت مَن يقرأ صحيحًا ويُطرب ويبكي.

نعم ورأيت مَن إذا قرأ قسَّى القلوب وأبرم النفوس، وبدلَّ كلام الله تعالى، وأسوأهم حالًا الجنائزية، والقرَّاء بالروايات، وبالجمع، فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيء على التلاوة بما يُخرج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة، وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراآت.

اقرأ يا رجل واعفنا مِن التغليظ والترقيق وفرْط الإمالة والمدود ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟.

وآخَر مِنهم إنْ حضر في ختمة أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت، والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا أبو فلان فاعرفوني فإنِّي عارف بالسبع.

إيش يُعمل بك؟ لا صبَّحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة.اهـ

سادسًا: قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (26/ 16- 17 – رقم:3):

التجويد متلقى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن، تلقوه عمَّن فوقهم، وتلقَّى مَن فوقهم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه عن نبيهم ــ عليه الصلاة والسلام ــ، فهي قراءة متوارثة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم حتى وصلت إلينا، فالمشروع للمؤمن أنْ يقرأ كما تلقَّى عن مشايخ القراءة، لأنَّ في هذا تحسينًا للقراءة، وتجويدًا لألفاظ القرآن، حتى يؤديها كما نزلت، وما فيه مِن غُنَّة أو إظهار أو إخفاء، كل هذا مِن التحسينات، ليس مِن الواجبات، بل هو مِن التحسين للألفاظ والعناية بالتلاوة، على خير وجه، وقد شجَّع النبي صلى الله عليه وسلم الناس على إحسان القراءة، وقال صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ ))، يَجهر به، ويحسِّن صوته جهرًا به، وثبت عنه ــ عليه الصلاة والسلام ـــ: (( زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ )) يعني: حسنوا أصواتكم به حتى يستلذه المستمع، وحتى يرتاح له المستمع، حتى يستفيد منه المستمع، فالتجويد مِن الأشياء المشروعة لتحسين القراءة، ولتأثيرها في القلوب، والتلذذ بها، ومِن ذلك ما يتعلق بالغُنَّة، وما يتعلق بالمدود إلى غير ذلك.اهـ

سابعًا: قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي ــ رحمه الله ــ كما في موقعه على الشبكة العنكبوتية ــ الإنترنت ــ حين سُئل عن قول بعض مَن كتب في علم التجويد أنَّه أوجبَه:

والحافظ ابن القيم في كتابه “إغاثة اللهفان” عَدَّ هذا مِن مكائد الشيطان، وهو: التنطع في التجويد، وقال: إنَّ بعض المقرئين يتردد إليه طالب العلم نحو أربعين يومًا في قراءة فاتحة الكتاب، وقال أيضًا: إنِّ بعضهم إذا كان يقرأ كأنَّه يتقيأ، وتنتفخ أوداجه، ويَحْمَرُّ وجهه، حتى كأنه يتقيأ…، فالتنطع في التجويد مذموم، وعدم الالتفات إلى التجويد يعتبر تفريطاً، فينبغي أنْ تحضر عند مَن يُعَلِّم تجويدًا، وتستفيد منه، أمَّا أنْ تعتقد أنَّه واجب فلا…، وفرق كبير، وبون شاسع بين شخص يُهَذْرِم بالقرآن، وآخَر يرتله ويجوده، فأنت تتأثر بالذي يرتله ويجوده، وقد جاء رجل كما في “الصحيح” إلى ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ وقال: يا ابن مسعود إنِّي قُمت البارحة بالمفصَّل؟ فقال عبد الله بن مسعود: (( هَذًّا كَهَذِّ الشِّعر )).

فالأمر وسط، والآية تُعتبر الحَكم: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } أي: بيِّنه تبينًا، فتُبيِّن كل حرف، وكل كلمة.

وبعض الأئمة ربما لا تستطيع أنْ تقرأ دعاء الاستفتاح إلا وهو يقول: الله أكبر، فقد استفتح وقرأ الفاتحة، وقرأ سورة بعدها، فهذا لعب، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القراءة في الصلاة، وفي سائر العبادات والمعاملات بل والاعتقادات.اهـ

ثامنًا: قال الإمام ابن تيمية الحرَّاني الدمشقي ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (16/ 50):

ولا يجعل همَّته فيما حُجب به أكثر الناس مِن العلوم عن حقائق القرآن، إمَّا بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنُّطق بالمدّ الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك.

فإنَّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرَّب مِن كلامه.

وكذلك شغل النُّطق بـ { أَأَنْذَرْتَهُمْ } وضم الميم مِن: { عَلَيْهِمْ } ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها، ونحو ذلك.

وكذلك مراعاة النَّغم وتحسين الصوت.

وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.اهـ

وقال أيضًا كما في “جامع المسائل” (3/ 304-305 – طبعة: دار عالم الفوائد، وتمويل: مؤسسة الراجحي):

وأمَّا ما أُحدِث بعدهم مِن تكفُّف القراءة على ألحان الغناء فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء، لأنَّه بدعة، ولأنَّ ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأنَّ ذلك يُورث أنْ يبقى قلب القارئ مصروفًا إلى وزن اللفظ بميزان الغناء، لا يتدبره ولا يَعقله، وأنْ يَبقى المستمعون يُصغون إليه لأجل الصوت الملحّن كما يُصغى إلى الغناء، لا لأجل استماع القرآن وفهمه وتدبره والانتفاع به.اهـ

تاسعًا: قال العلامة عبد الرحمن بن قاسم النَّجدي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في “حاشية مقدمة التفسير” (ص: 157):

قال الذَّهبي: القراءة المجوَّدة فيها تنطُّع وتحرير زائد يؤدي إلى أنَّ المجوَّد القارئ يبقى مصروف الهمَّة إلى مراعاة الحروف، والتنطُّع في تجويدها، بحيث يشغله ذلك عن تدبر كتاب الله، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة، حتى ذُكر أنَّهم ينظرون إلى حفاظ كتاب الله بعين المقت.اهـ

عاشرًا: قال العلامة أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن الحسيني البخاري القِنَّوجي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح البيان في مقاصد القرآن” (7/ 246):

والمقصود مِن الترتيل إنَّما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف مِن الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرَّاء هذا الزمان مِن أهل مصر وغيره، في مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكَّالون، والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كُسرت في الإسلام.اهـ

حادي عشر: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ في كتابه “الشرح الممتع على زاد المستقنع” (4/ 250-251):

ولم يَذكر المؤلف كراهة إمامة مَن لا يقرأ بالتجويد، لأنَّه لا تُكره القراءة بغير التجويد.

والتجويد مِن باب تحسين الصوت بالقرآنِ، وليس بواجب، إنْ قرأَ به الإِنسان لتحسين صوته فهذا حسن، وإنْ لم يقرأ به فلا حرج عليه، ولم يَفته شيء يأثم بتركه، بل إنَّ شيخ الإسلام ــ رحمه الله ــ ذمَّ أولئك القوم الذين يعتنون باللفظ، وربَّما يُكررون الكلمة مرتين أو ثلاثًا مِن أجل أنْ ينطقوا بها على قواعد التجويد، ويَغفلون عن المعنى وتدبر القرآن.اهـ

ثاني عشر: قال الحافظ أبو عمرو الداني ــ رحمه الله ــ في كتابه “التحديد في الإتقان والتجويد” (ص: 71-72):

وقال الله تعالى مؤدِّبًا لنبيِّه وحاثًّا لأمته على الاقتداء به: { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا }، أي: تلبَّث في قراءته، وافصل الحرف مِن الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض.اهـ

وقال أيضًا (ص:89):

اعلموا أنَّ التحقيق الوارد عن أئمة القراءة حدُّه أنْ تُوفَّى الحروف حقوقها، مِن المدِّ إنْ كانت ممدودة، ومِن التمكين إنْ كانت ممكّنة، ومِن الهمز إنْ كانت مهموزة، ومِن التشديد إنْ كانت مشدَّدة، ومِن الإدغام إنْ كانت مدغَمة، ومِن الفتح إنْ كانت مفتوحة، ومِن الإمالة إنْ كانت مُمالة، ومِن الحركة إنْ كانت متحركة، ومِن السكون إنْ كانت مسكَّنة، مِن غير تجاوز، ولا تعسًّف، ولا إفراط، ولا تكلُّف، على ما نُبيِّنه في ما بعد، إنْ شاء الله تعالى.

فأمَّا ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة مِن أهل الأداء مِن الإفراط في التمطيط، والتعسُّف في التفكيك، والإسراف في إشباع الحركات وتلخيص السواكن، إلى غير ذلك مِن الألفاظ المستبشَعة، والمذاهب المكروهة، فخارج عن مذاهب الأئمة، وجمهور سلف الأمة، وقد وردت الآثار عنهم بكراهة ذلك، وبكيفية حقيقته.اهـ

ثالث عشر: قال العلامة أبو عبد الله بن مفلح الحنبلي المقدسي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الآداب الشرعية” (2/ 279):

ويستحب ترتيل القراءة وإعرابها وتمكين حروف المدّ واللِّين مِن غير تكلُّف.

قال الإمام أحمد: تُعجبني القراءة السَّهلة، وكرِه السُّرعة في القراءة، قال حرب: سألت أحمد عن السُّرعة في القراءة فكرهه إلا أنْ يكون لسان الرجل كذلك، أو لا يقدر أنْ يَترسل، قيل: فيه إثْم؟ قال: أمَّا الإثم فلا أجترئ عليه، قال القاضي: يعني: إذا لم تَبِن الحروف.اهـ

وقد جاء عن أبي موسى الأشعري ــ رضي الله عنه ــ مرفوعًا وموقوفًا:

(( مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامُ حَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ )).

أخرجه أبو داود (4843)، وابن المبارك في “الزهد” (388-389)، والبخاري في “الأدب المفرد” (357)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” (30258-32561-21922)، وابن زنجويه في “الأموال” (52)، وغيرهم.

وأكثر الرواة على وقفه، وهو الصواب.

وقد حسَّنه:

النووي، وزين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، والسَّخاوي، والسيوطي، والمُناوي، ومحمد بن عبد الوهاب، والألباني، واللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة ابن باز.

وقال زين الدين المُناوي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التيسير بشرح الجامع الصغير” (1 / 347):

(( غير الغالي فِيهِ )) بِغَين مُعْجمَة، أي: غير المتجاوز الحَدّ في العمل به، وتتبُّع ما خفِي مِنه، واشتبه عليه مِن معانيه، وفي حدود قراءته، ومخارج حروفه.اهـ

وقال مُلَّا علي قاري الهروي الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” (8 / 3114):

وقيل: الغلو المبالغة في التجويد أو الإسراع في القراءة، بحيث يمنعه عن تدبُّر المعنى.اهـ

وكتبه:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.