سعي الخائف مِن ربِّه إلى سلامة قلبه مِن الشحناء والغِلّ والحقد والحسد والضغينة
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــ
الحمد لله الذي افتُتِحَ بحمدِه الكتاب، غافرِ الذنْبِ وقابِلِ التَّوبِ شديدِ العقاب، وأصلِّي وأسلَّم على عبده ورسوله محمدٍ الأوَّهِ المُنيبِ كثيرِ المَتَاب، وعلى آله وأصحابه الساعين إلى نَشر سُننه وأحكامه وأحواله والآداب.
أمَّا بعد، فَيَا عباد الله:
اتقوا الله ــ جلَّ وعلا ــ بفعل ما يُصلِح قلوبَكم، ويُنقِّي بواطنَكم، وتقرَّبوا إليه بِطِيب المقاصد، وحُسْنِ السَّرائر، وتطهيرِ القلب عن كُل خُلق فظٍّ غليظ، وتجميلِ النفس بسلامة الصَّدر ورِقَّة القلب مع ذَوي القُرْبَى وعموم المسلمين، فبصلاح القلب تستقيم طاعات الجوارح القولية والفِعلية وتُقبْل، وبفساده تفسُد، لِما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ )).
واعلموا أنَّ القلبَ والعملَ مَحلُّ نظرِ الله تعالى مِن عبده، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )).
ويوم البعث والجزاء، حين يُبَعْثَرُ ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، فالقلب الذي جاهد فيه صاحبُه حتى أصبح سليمًا هو النافع المُنجي، لقول الرَّب سبحانه: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }.
عباد الله:
احرصوا شديدًا على تنقية قلوبِكم مِن الحِقد والغِلّ، وجاهدوا أنفسكم على إزالة الضغائن والشحناء، وأبعدوا عن أنفسكم الحسد وأخرجوه، فهي أمراض تُضعفُ إيمانَ القلب وصحَّته، وتُورِث الأوزارَ والهُموم، وتَجُرُّ إلى ذنوبٍ كبائر، وتُتلفُ الأعصاب، وتَجلِبُ الضِّيق والاضطراب والأرَق، وتَزيدُ في الغضب والتَّهوُّر، وقد صحَّ أنَّه قِيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» )).
واعلموا أنَّه لا أرْوَحَ للمرء، ولا أطْرَدَ لِهمومه، ولا أقرَّ لِعينه، مِن أنْ يعيشَ سليم القلب، قد فارقته أثقالُ الضَّغينة، وزالت عنه نِيرانُ الأحقاد، وابتعد عنه سُمُّ الحسد وشُرورُه، وليس أمرَضَ للقلب، ولا أتلَفَ للأعصاب، ولا أشغلَ للذهن، ولا أوجعَ للنفس مِن أنْ يَمتلئ القلب حقدًا، ويكتظَّ الصدر كُرهًا، وينتفخَ صاحبُه نُفرةً وشحناء، وقد جاء بسندٍ صحَّحه بعض أهل العلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (( يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ))، فتَبِعَه أحدُهم وطلب مِنه أنْ يُؤويَه ثلاثًا، ففَعل، فلمَّا مضت الثلاثُ ليال، قال له: (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ الرجل: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ )).
وثبت إلى زيد بن أسلم ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( دُخِلَ عَلَى ابن أَبِي دُجَانَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لِوَجْهِكَ يَتَهَلَّلُ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنَ اثْنَتَيْنِ: أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَكُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا )).
وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ــ وذَكَرَ مِنهم ــ: رَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ )).
وكان مِن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي ))، أي: أخرج مِنه الحِقدَ والغِلَّ والحسد والغِش والبغضاءَ للمؤمنين.
وصحَّ عن أبي الدرداء ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ؟ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَلَا وَإِنَّ الْبُغْضَةَ هِيَ الْحَالِقَةُ )).
وَ (( الْبُغْضَةَ )) هي: التباغض، وَ (( الحالِقةُ )) أي: المُهلِكةُ التي تستأصِلُ الدِّينَ كما تَفعل الأمواسُ بالشَّعْر.
وإنَّ مِن صالحِ أعمال المُتأخَّرين مِن أهل الإيمان وأفضلِهِ وأبركِهِ عليهم: سلامةَ صدورهم لِمَن سَبقهم مِن المؤمنين، مع دعائهم مولاهم سبحانه أنْ لا يَجعل في قلوبهم غلًّا لهم، حيث قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
ولقد كانت الشَّحناء، وهي: حِقد المسلم على أخيه بُغضًا له، لِهوى نفسه، مِن الذنوب المانعة عن المتشاحِنَيِنِ المغفرةَ في أوقات المغفرة والرحمة، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا )).
بل إنَّ الشحناء قد أسقطت أقوامًا في أشنع وأكْرَهِ وأوسخِ أوحالها، فوصلت بين الوالدين وأولادهما ذكورًا وإناثًا، والشقيقِ مع شقيقه، والمرأةِ مع أهلها، والزوجِ مع زوجه، والزوجةِ مع أهلِ زوجها، والزوجِ مع أصهاره، وبين أبناءِ العمومة، وبين ذوي الأرحام، والجارِ مع جاره في البيت أو المَتجر أو الوظيفة، والشريكِ مع شريكه، وبين الرُّفقاءِ، فتباغضوا، وتقاطعوا، ونالوا مِن عِرْضِ بعض، وكادوا لبعض، وفضحوهم، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه زجَر عن ذلك فقال: (( لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا )).
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ
الحمد لله مُسْتوجِبِ الحمدِ والعبادة، المُتابِعِ لأهل طاعتِه إعانَتَه وإمدادَه، وأُصلِّي وأُسلِّم على نبيِّه وحبيبه محمدٍ وأشهدُ له بالرِّسالة، وأُثَنِّي بالتَّرضِّي على آله وأصحابه وأزواجه، ومَن اتَّبعَ رشاده.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ مِن أسبابِ ذهابِ الشحناء والتباغض والغِلِّ والحِقد والحسد عن القلوب، وحُلولِ الوِدِّ والأُلفَة والتآلُف:
التخاطُبَ بالكلام الحسَن اللطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، لأنَّ الشيطان يَسعى بين العباد بما يُفسد عليهم دينَهم ودنياهم، وقد قال الله سبحانه آمرًا: { وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الّتي هِىَ أحسَنُ إنّ الشَيطَانَ يَنَزَغُ بَيَنَهُم إن الشَيطَانَ كَانَ للإنَسانِ عَدُوّاً مُبِيناً }.
ومِن الأسباب أيضًا: إفشاء السلام على القريب والبعيد، مَن عَرفت مِنهم ومَن لم تَعرف، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ )).
ومِن جميل الشِّعر قولُ بعضهم:
قَدْ يَمْكُثُ النَّاسُ دَهْرًا لَيْسَ بَيْنَهُمُ … وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطَفُ
ومِن الأسباب أيضًا: التهادي بين بعض، وصُنع المعروف لبعض، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( تَهَادُوا تَحَابُّوا ))، وصحَّ عن أنس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( يَا بَنِيَّ: تَبَاذَلُوا بَيْنَكُمْ، فَإِنَّهُ أَوَدُّ لِمَا بَيْنَكُمْ )).
ومِن الأسباب أيضًا: إبعاد النفس عن الغضب، وتذكيرها بفضل كظم الغيظ، وتحليتها بالحِلم والأناة، إذ الغضب مفتاح الشرور، وعنه يتولَّدُ الغِلُّ والحِقد والحسد، وقد صحَّ عن رجل مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( يَا رَسُولَ اللهِ: أَوْصِنِي؟ فَقَالَ: “لَا تَغْضَبْ”، قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ )).
ومِن الأسباب أيضًا: ترْك المِراء والجِدال حول المسائل والوقائع والأحداث والفتن، حتى وإنْ كان المتكلِّم مُحقًّا، لأنَّ ذلك قد يَجلب تعصُّبَ الإنسان وتعنُّتَه لِما يقول ويَختار، ورفعَ الصوت على مجادله، وتحقيرَ رأيه أمام رأيه، فيظن هذا أنَّه يَستصغِرُه ويُجهِّلُه، وهذا يُثير الحقدَ والكراهية، ويُذكِي الشحناء، ويُولِّد النُّفرة، وفي ترْك المِراء راحة القلب والبَدن في الدنيا، والتَّنَعم في الجنَّة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ))، والمِراء هو: الجِدال.
ومِن جميل الشِّعر قولُ بعضهم:
وَاحْذَّرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَال فَإِنَّهَا … تَدْعُو إِلى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ
ومِن الأسباب أيضًا: ترْك التنافس على الدنيا وحطامها، بين أهل المناصب والوظائف، وبين أهل المتاجر والتجارة، وبين أهل المِهن والحِرف، وبين أهل الزراعة، وبين أهل المواشي، وبين أهل الطِّب، وبين أصحاب الشركات، وبين ملَّاك العقارات، وبين وجهاء القبائل، وفي المحافل والأعراس والمناسبات، وبين الورثة مع الميراث، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ )).
ومِن الأسباب أيضًا: الاستعانة بصيام ثلاثة أيَّام مِن كل شهر، فالصوم يُهذِّب النفس، ويرقِّق الطبع، ويُضعف الغضب، ويَدحَر الشيطان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ))، ووحَرُ الصَّدر هو: غِشه وحِقده وحسده وغيظه ووساوسه.
ولهذا تجد المكثرين من صيام التطوع من أعظم الخلق رفقًا، وألينهم عريكة، وأوسعهم رحمة، وأسهلهم.
ومِن الأسباب أيضًا: تذكُّر عاقبة التشاحن في الدنيا والآخرة، فهي في الدنيا تَجرُّ إلى ذنوبٍ عديدة وعظيمة، فتُوقع في التقاطُع والظلم والغِيبة والنميمة والكذب والبهتان، والجور في الخصومة، والكيد والمَكر والأذية، والهمز والَّلمز، وتتبع العورات، واستجماع الزلات، وتعظيم وتكبير الأخطاء، بل قد تُوصِل إلى القتل والاقتتال، وتَدخُل على القلب فتَكْويَه وتُؤرِّقَه وتُحَسِّرَه بنار الهَمِّ والغمَّ والحُزن والقلقل والأرَق والضيق، وفي الآخرة تُسبِّب العذاب الشديد، لكثرة ما تولَّد عنها مِن آثام، وجَرَّته مِن آلام، وأحدثته مِن فتن وشرور.
واعلموا أنَّ مِن أطيب نعيم أهل الجنة أنْ نزَع الله مِن صدور أهلها الغِلَّ والحِقد، فقال سبحانه ممتنًا: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }.
هذا وأسأل الله أنْ يُطهِّرَ قلوبنا مِن الغِلّ والحقد والحسد، ويُزيلَ عنها البغضاءَ والشحناء لأهل الإيمان، اللهم ارفع الضُّر عن المتضررين مِن المسلمين في كل أرض، وأعذنا وإيَّاهم مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأصلح الحكام والمحكومين، وخُذ بأيديهم إلى مراضيك، اللهم اغفر لنا ولجميع أهلينا، اللهم مَن كان مِنهم حيًا فبارك له في عُمره وعمله وصحته وأهله وماله، ومَن كان مِنهم مَيْتًا فارحمه وتجاوز عن سيئاته، واجعله في قبره مُنعَّمًا، وأكرمنا وإيَّاهم في الآخرة برضاك، والجنةِ، والنظرِ إليك، إنَّك سميع مجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.