آداب بقدر تحقيقها مع العالم ينتفع الطالب بما يفيد من علمه
الحمدُ لله العليِّ العظيم القادر، وهو الأوَّلُ والآخِر والباطن والظَّاهر، عالِـم الغَيب والشَّهادة المُطَّلع على السَّرائر والضَّمائر، خَلَق فقدَّر، ودبَّر فيسَّر، فكلُّ عبدٍ إلى ما قدَّره عليه وقضاه صَائِر.
والصَّلاةُ والسَّلام على عبده ورسوله محمَّدٍ الأمين الصَّادق، القانِت الخاشِع، الرَّاكع السَّاجد، الهادِي إلى شريعة الله ورضوانه ومغفرته، وعلى آله وأصحابه الكِرام الأماجِد، ومَن على سبيله وسبيلهم إلى الله سائِر.
أمَّا بعدُ، أيُّها الإخوة والأخوات – رَزقكم الله حُسن الأدب، وحِفظ الجَميل، ومعرفة الفَضل لأهله -:
ففي لقاء هذه اللَّيلة أُعلِّق بما سيُيسِّر الله – عزَّ وجلَّ – على كلمةٍ طيِّبةٍ جليلة، ونصيحةٍ جميلةٍ نافِعة، ووصيَّةٍ غاليةٍ رفيعة؛ تنفعني وتنفعكم، وتنفع سائر النَّاس.
هذه الدُّرَّة المُشرقة، والنَّصيحة العَطِرة، قالها بُخاريُّ الغَرب، الإمام الحافظ أبو عَمَر ابن عبد البَـرِّ، إمام أهل السُّنَّة في زمانه – رحمه الله -.
هكذا وصفه الإمام ابنُ قَيـِّم الجوزية – رحمه الله – في كتابه «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطِّلة والجهمية»([1]).
وهي تتعلَّقُ بأدبِ طالب العِلـمِ مع أهل العِلـمِ الذين يتتلمذُ على أيديهم، ويتلقَّى عنهم، ويستفيد من علمهم، ويَـفِد إليهم، ويشهَد مجالِسهم، ويرجِعُ إليهم إذا أشكَل عليه أمرٌ في عقيدته، أو عبادته، أو معاملاته.
وقد قالها -رحمه الله-في كتابِ الجَامع الذي خَتَم به كتابه «الكافي في فِقه أهل المدِينة»([2]).
فأقول مُستعينًا بالله-عز َّوجلَّ-ربِّي وربِّكم:
قال الحافظ الكبير والإمام الراسخ والعالم البحر أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الأندلسي المالكي ـ رحمه الله ـ ناصحًا لنا ومرشدًا وموجهًا ومربيًا:
[ وحقيق على من جالس عالمًا أن ينظر إليه بعين الإجلال، وينصت له عند المقال، وأن تكون مراجعته له تفهمًا لا تعنتًا، وبقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع بما يفيد من علمه ].
أيُّها الإخوة والأخوات – سدَّدكم الله، وأكرمكم بجميلِ الآداب، وجعلها زينةً لكم أينما كنتم -:
العالِـمُ فضله على المتعلِّمين كبيرٌ، وأثرُه عليهم في دِينهم وأخلاقهم وآدابهم ومُعامَلاتهم عظيم، وفائدتهم منه في أعمالهم وبيوتهم وأسفارهم كثيرة؛ بل إن آثاره الطيبة عليهم تستمرُّ معهم إلى المَمَات وبعد الممات.
وكيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وهو يُبصِّرك بما يريد ربُّك منك، وغيرُه يُبصِّرك بما يريد أهلُك وأصحابك والنَّاس منك؟!
كيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وهو يُبصِّرك بما يقوِّي ويزيد في دِينك وإيمانك، وغيرُه يُبصِّرك بما يُسمِّن ويقوِّي بدنك وجسدك؟!
كيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وهو يُبصِّرك بما يحميك ويقِيك من النَّار وعذابها وبؤسها، وغيرُه يُبصِّرك بما يحميك من المرض والفقر، وأذى النَّاس، وعقوبة السُّلطان؟!
كيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وهو يُبصِّرك بما يقرِّبك من ربِّك ويرضيه عنك، وغيرُه يُبصِّرك بما يقرِّب من النَّاس ويرضيهم عنك؟!
كيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وهو يقُودك إلى طريق الجنَّة والتَّنعُّم بما فيها، وغيرُه يقودك إلى الدُّنيا والاستمتاع بملذَّاتها؟!
كيف لا يكون للعالِـم فضلٌ عليك، وأثرُه عليك مستمِرٌّ غَير منقطع، تنعَمُ به في دُنياك، وتنعَمُ به في قبرك، وتنعَمُ به في آخرتك، وتتنعَّم به في جنَّات النَّعيم، وغيرُه أثرُه عليك قليلٌ ومنقطع؟!
فالله! الله! في العالِـم.
لنحفظ جميله علينا؛ فلا ننساه.
ولنشكره عليه؛ ولا نكْفُره.
لندعوَ له بالخَير.
فهو وارثُ عِلـمِ النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم – بيننا.
ورافعُ رايتِه في صفوفنا.
وناشرُه في حاضرتنا وباديتنا، وفي مُدنِنا وقُرَانا.
وداعٍ لنا إلى العمل والاستِمسَاك به.
يَسعدُ إن عملنا به.
ويفرحُ إن استَمسكـنا به.
ويحزنُ إن تركـنا أَخْذَه.
ويتأسَّفُ ويتوجَّع إن ضَعُف عملنا به.
العالِـمُ قد أقبلَ على هذا الميراث النَّبويِّ؛ ونحنُ انصرفنا، ووَرِثَه حين أهملَنْا وشغلَتنا الدُّنيا !!
وحَرِص على تعلُّمه وحِفظه؛ ونحنُ غَفَلنا !!
وسَعَى في تعليمه ونشره وبثِّه بين النَّاس؛ ونحنُ تكاسَلنا !!
وعَمِل به وأظهره؛ ونحن ضَعُفنا وفرَّطنا !!
وجاء في الحديث عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ, وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ, وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا, وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»([3]).
وقد صححه ابن حبان، وحسنه ابن قيم الجوزية، والألباني.
وثبت عن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ المَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: «ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ» قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: «فِي المَسْجِدِ» ؛ فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى المَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَـهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا المَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟» قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الحَلَالَ وَالحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ-صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»([4]).
وقد حسن إسناده المنذري، والهيثمي، والألباني.
فشَكَر اللهُ للعالِـمِ سَعْيَه.
وجزاهُ عنَّا خيرًا .
وبارَك له في هذا العِلـم في دُنياه وفي أُخرَاه.
وهنيئًا له هذا الميراث.
فنِعْمَ المُوَرِّث؛ وهم الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم -.
ونِعْمَ الوارِث؛ وهو العالِـم.
ونِعْمَ الموروث؛ وهو العِلمُ الشَّرعِي.
أيُّها الإخوة والأخوات – جمَّلكُم الله بالتَّوحيد والسُّنَّة إلى المَمَات -:
أعودُ إلى كلمة الحافظ ابن عبد البرِّ- رحمه الله -، وأعيدُها، فقد قال:
[ وحقيقٌ على مَن جالَس عالمًا: أن ينظر إليه بعَين الإجلال، وينصِت له عند المقال، وأن تكون مراجعته له تفهمًا، لا تعنتًا، وبقَدر إجلالِ الطالب للعالِم ينتفعُ بما يَفِيد من عِلمِه].
فذَكَر – رحمه الله – في هذا المقطع من كلامه ثلاثة آداب ينبغي أن يسلكها ويتحلى بها طالب العِلـمِ مع شَيخه وأستاذه ومربِّيه، مع أهل العِلـمِ الذين يأخذ عنهم، ويستفيد منهم.
الأدبُ الأوَّل: أن ينظرَ إلى العالم والشيخ بعَين الإجلال والتَّوقير والاحترام.
وذلك لأنَّ العالِـم من أشدِّ النَّاس رحمةً بمَن حَضَر عنده؛ فهو يدلُّـهم على ما يرحمهم الله به في دنياهم، وفي قبورهم، وفي آخرتهم؛ فيُبيِّنه لهم، ويرغِّبهم فيه، ويشجِّعهم على الاستِمسَاك به، ويُوصِيهم بالاستمرار عليه وتعاهده.
وهو في هذا لا يريدُ منهم مالًا، ولا يطلب بهم تكثُّرًا، ولا ينتظر منهم نُصرةً، ولا دفعًا.
فَمَثلُه كمثلِ عبد الله ونبيِّه شُعيب – عليه السَّلام – إذْ قال لقومه كما في سورة هود: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }.
مَثَلُه كمثلِ مَن قال الله تعالى فيهم في سورة الإنسان: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا }.
فليس له مِن المقاصد إلَّا أن تصلح أحوال النَّاس، وتستقيم أحوالهم، ويقرُبوا من ربِّهم، وتحلَّ عليهم رحمته، وينالوا رضاه ونعيمه.
أمَّا غير العالِـم فقد يبذُل لكَ النُّصح والإرشاد، ويدلُّك إلى الهدَى والنُّور، ويعلِّمك ما ينفعك لمصلحةٍ، أو وَشِيجةٍ بينه وبينك من قرابةٍ، أو مالٍ، أو منصبٍ، أو جاهٍ، أو نُصرةٍ، أو تكثير أتباعٍ، أو تكبير حِزبٍ، أو زيادة صَوتٍ في انتخاب رئاسةٍ، أو برلمانٍ، أو مجلسٍ نيابي!!!
ثمَّ ليعلم طالب العِلم – سدده الله -:
أنَّ هذا الإجلال، وهذا التَّوقير، وهذا الاحترام للعالِـم؛ إنَّما هو دِينٌ وقُربةٌ وحَسَنة؛ فأنت عندما تعظِّمه وتوقِّره إنَّما تفعل ذلك لله، تفعله ابتغاء الأجر مِن عنده سبحانه.
وقد صحَّ عن طاوُوس – رحمه الله – أنَّه قال:
«مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ : الْعَالِـمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَالِدُ».
ودُونكم- بارك اللهُ فِيكم وسدَّدكم – شيءٌ من تَوقير السَّلف الصَّالح – رحمهم الله – لِأهل العِلـمِ في أيَّامهم وزمنهم:
فقد صحَّ عن الشَّعبي-رحمه الله-أنَّه قال:
«ذَهَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِيَرْكَبَ وَوَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الرِّكَابِ, فَأَمْسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالرِّكَابِ, فَقَالَ: تَنَحَّ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ, قَالَ: «لَا ؛ هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءُ».
وقال محمَّد بن سِيرين – رحمه الله -:
«رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى وَأَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ وَيُسَوِّدُونَهُ وَيُشَرِّفُونَهُ مِثْلَ الْأَمِيرِ».
وفي هذا يقول يُوسف بن هارُون – رحمه الله -:
وَأُجِــلُّهُ فِي كُـلِّ عَيْنٍ عِلْــمَهُ |
فَيَرَى لَهُ الإِجْـلاَلَ كُلُّ جَـلِيلِ |
|
وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ كَالخُلَفَاءِ عِنْـ |
ـدَ النَّاسِ فِي التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ |